ومن أجل تأهيل الإنسان باعتباره جوهر موارد النماء عموماً، وتحقيق تعبئة اجتماعية بمستويات عدة ومتداخلة، باتت الثقافة آلية رافعة وأداة على درجة علية من الأهمية في هذا الإطار. وعليه فتدبير الثقافي لا يقل أهمية عن تدبير باقي القطاعات الأخرى، ومن ثمة ما ينبغي من تأطير باعتماد أساليب وتقنيات أكثر فاعلية وملاءمة.

ولعله من المفيد توثيق نماذج من تجارب العمل الثقافي بلغت أهدافاً ما، ونجحت في رسم موقع لها وتمكنت من إثبات وقعها على أساس منتجها في علاقتها بنماء الإنسان ومن خلاله المجتمع. وذلك من أجل إبراز معالمها وتلاقح مضامينها وقراءة مسار فعل وتفاعلات في هذا الإطار من جهة، وطرح جملة أسئلة ذات صلة من قبيل فائدة الثقافة في بعدها المحلي والوطني والكوني، وهل العمل الثقافي مجرد تنشيط موسمي بآثار محدودة فقط أم جوهره ما ينبغي من اهتمام بما يندرج في قلب أوراش التنمية عبر ما هو رافع واستشرافي من بادرة. ثم ما موقع الثقافي في تدبير الشأن وما ترتيبه في سلم تدبير مدبرين؟ وكيف يمكن نقل ما هو ثقافي من خلال ملتقيات، من نهج هواية تقوم على منطق تلقائية إلى ما هو مهننة من شأنها تأمين وفرز فرص رقي باتجاه ما هو منْتَج مندمج؟

بعض من إشارات عميقة في علاقة الثقافة بالتنمية ومن هواجس جوهرية أخرى، استهل بها الدكتور محمد الزرهوني رحمه الله مقدمة مؤلف رصين صدر له بفاس ضمن طبعة أولى من حوالي مائتي صفحة من قطع متوسط، مؤلف متميز استشرافي موسوم بـ"العمل الثقافي والمشروع التنموي.. من المبادرة إلى المشروع"، توجه فيه بالعناية لتحليل ومقاربة تجربة ملتقى مدينة صفرو الثقافي مستهدفاً سؤال التنمية المحلية ومسألة الحكامة ووقع الثقافي في إطار القرب، في أفق اشتغال من شأنه السير بمَهمة المكون الثقافي إلى ما هو نوعي، على أساس ما هو حديث من سبل عمل في مجال تدبير التراب وهو ما يعد بحق مدخلاً ثقافياً للتنمية.

وباعتبارها حاضرة مغربية عتيقة عمرت لأكثر من عشرة قرون، كانت صفرو عبر تاريخها بوظائف عدة منها الوظيفة الثقافية التي أسهمت فيها وأثثتها مؤسسات مسلمة ويهودية هنا وهناك من أمكنة وأزمنة المدينة. غير أنه على عهد الحماية في سنواتها الأولى خلال القرن الماضي وما حصل من تدبير مجالي تحديثي من قبل السلطات الفرنسية، اتسع نسيج المدينة الثقافي من خلال بنيات جديدة أحدثت تغييرات معبرة على ما هو وظيفي مجالي حضري، ضمن ازدواجية تقوى فيها نمط تنشيط عصري بات بجاذبية أكثر، انبثقت عنها كتحولات هياكل جديدة بالمدينة ارتبطت بحاجيات جالية أوروبية وبعض أعيان الأهالي من مسلمين ويهود.

وتبعاً لِما كان لها من سند قانوني ونفوذ سياسي، لعبت بلدية صفرو بعد إحداثها سنة 1917 دوراً محركاً أول لِما هو ثقافي، وهو ما كان وراء نشأة إطارات جمعوية باهتمامات متباينة أثمرت نسيجاً ثقافياً محلياً جعل من مؤسسة البلدية فاعلا في هذا الإطار. ولعل من مكونات نسيج المدينة الثقافي البلدي الحالي "الملتقى الثقافي لصفرو"، الموعد الذي انطلق قبل أكثر من عقدين من الزمن كحدث سنوي طبع المدينة وجوارها من المجال. وهو ما يمكن الحديث فيه عن ايقاعات متباينة ومضامين وخيارات ووقع عطاء من محطة لأخرى، وأيضاً عما هو سياق وصفة ومدة وإقبال وفضاء وقضايا وأسلوب اشتغال وأهداف وموارد وغيرها.

وحول طبيعة الثقافي ودرجة اختماره، يشير المؤلف إلى ما هي عليه منطقة "صفرو" من إرث ثقافي هام وواسع تبلور ونبع من محيط جغرافي غني وعن موارد بشرية متنوعة، إرث ارتبط بمسار تاريخي ممتد في القدم أنتج اندماجاً وتواصلاً وأنماط عيش وإنسانية إنسان، ما أضفى على المدينة مسحة حضارية محلية بسمات خاصة تميزت بها عن باقي مدن البلاد العتيقة، سمات توارثتها أجيال وحافظت عليها بل أغنتها وفق ما هو ذاتي وموضوعي من زمن ومكان ومورد.

وعن صفرو باعتبارها مدينة تعدد وثقافة تعايش ومشترك، أشار الدكتور محمد الزرهوني إلى ما أبانت عنه جملة دراسات تاريخية اجتماعية من تساكن بين عيش ومكونات حاضرة حافظت على هويتها وخصوصيتها الثقافية، مع تركيز على العلاقة بين مسلمين ويهود وُجِدوا بصفرو منذ مئات السنين، بحيث حافظ كل طرف على وقع تعبيري خاص به. ومن هنا ما كانت عليه المدينة من حيز تفاعل وتأسيس لنبض طبعها من خلال إرث ومشترك وتقاليد، فضلاً عن حرص الجميع فيها واضطلاعه بمسؤولية مشترك ضامن لاستمرارية حياة وعيش وتعايش وتفاعل حضري، وكان لِما هو إنساني ثقافي جمعي من شعور دور في نسج علاقات ومواقف انبنت على تبادل منافع هنا وهناك مجالياً وبين هذه وتلك من الأنشطة.

ويذكر المؤلف أن من جملة ما طبع تدبير تراب منطقة صفرو من قِبل سلطات الحماية بعد إحداث بلدية المدينة، تنظيم موسم حب الملوك الذي تعود نسخته الأولى إلى سنة 1919 تكريما لشجرة الكرز، خدمة لِما كان من رهان سياحي محلي ايكولوجي وورش مؤسس على الثقافي، فضلاً عن خزانة تابعة للبلدية تم إحداثها سنة 1927 لأهداف معرفية تعليمية وتثقيفية. مناخ عام اتسع وانفتح أكثر بعد استقلال البلاد وصدور ظهير 1958، ما شكل مرحلة جديدة في علاقة المواطن بالثقافة وهذه الأخيرة بالتنمية المحلية والمجتمع المدني.

وكان "الملتقى الثقافي لصفرو" أهم علامة ثقافية طبعت المنطقة منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، ذلك أنها انبنت على غنى التراث والتراب من خلال أسئلة وانشغالات إنمائية استهدفت تثمين المحلى من إنسان ومجال، عبر ما هو دراسات ومقاربات وتعريف بالإمكان من موارد اقتصاد ومجتمع وبيئة محلية. هكذا بدأت فكرة ملتقى صفرو من خلال مثقفين ومهتمين من أبنائها، وبدأ حضن واحتضان بلدية المدينة لعلامة ثقافية رمزية منذ ربيع 1986.

ولعل لفكرة ونشأة وبلورة هذا الموعد بهذه الحاضرة الجبلة على مشارف فاس علاقة بعقلية تدبير جماعة منذ أواسط سبعينات القرن الماضي. وهو ما أسهم في استحضار الرهان الثقافي في التنمية عبر جملة برامج، جمعت بين أنشطة ثقافية ودراسات محلية ميدانية... كان لها فضل في تعميق رؤى واختمار أفكار مهدت لبادرة "الملتقى الثقافي لصفرو"، دون نسيان ما أسهمت به نخبة صفرو من باحثين ومثقفين وغيرهم، ليس فقط من خلال ما توجهوا إليه من أبحاث وقراءات لمجال المدينة ومحيطها، بل أيضاً من أجل استثمار خلاصاتها ومنتجاتها لفائدة التنمية المحلية.

وقد اعتبر ملتقى صفرو الثقافي في بداياته كورش من تجارب البلاد الرائدة والتوجهات والخيارات غير المسبوقة وطنيا، هذا في ظرفية اتسع فيها الحديث عن أهمية انفتاح الجامعة على محيطها ورهان التفاعل بين هذه الأخيرة من جهة، والجماعات المحلية من جهة أخرى. مع أهمية الإشارة إلى ما كان لمنتدى أصيلة الثقافي السنوي الذي انطلق بداية ثمانينات القرن الماضي من تأثير كتجربة ثقافية بصدى وإشعاع كبيرين على موعد صفرو الذي بدأ يكبر تدريجياً ويترسخ.

وكانت دورة "الملتقى الثقافي لصفرو" الأولى ذات صدى قويا جعل المدينة تبرز في الواجهة ضمن محطات ثقافية علمية إنمائية، سواء من حيث طبيعة ما تم تداوله في أشغالها من تيمات وإشكالات تنموية، أو بالنظر إلى درجة ما حصل من إقبال وتجاوب وتتبع كبير أبان عن أهمية تثبيت الموعد بجعله محطة ثقافية قارة خلال ربيع كل سنة. ولا شك أن "الملتقى" كان له فضل كبير في إغناء المشهد الثقافي للمدينة وجوارها على أكثر من صعيد، ذلك أنه بقدر ما عمق اهتمام الجميع كل من موقعه بشأن تنمية المدينة، بقدر ما وسع من وعاء ما هو مساعد رافع لورش محلي من تفاعل إنساني وتواصل وحوار وتقاسم نتائج وغيرها.

ويسجل إلى جانب حمولة "الملتقى" العلمية ورهانه الثقافي الوظيفي ما كان يطبع برامج دوراته وتوصياتها، ومن جملة ما تبلور من تقاليد نبيلة في رحم هذا الموعد ذلك الالتفات الإنساني الاحتفائي لعدد من أبناء المنطقة من باحثين ومفكرين وأسماء عالمة كان لها أثر في إغناء ما هو محلي، وطني ودولي، من خلال لحظات اعتراف وتثمين وتكريم واحتفاء تقديراً لهم على إسهاماتهم وجهودهم العلمية، باعتبارهم موارد على قدر كبير من الأهمية لتنمية المنطقة واستثمار مؤهلاتها وإبراز كنوزها وذخائرها وتراثها المادي واللامادي.

ونذكر ممن حظي بالتفات "ملتقى صفرو الثقافي" الدكتور حسن بن حليمة، صاحب أول أطروحة جامعية تم إعدادها حول المجال الجغرافي للمنطقة سنة 1977؛ فقد كان له فضل في أول وثيقة علمية مجالية أسهمت في التعريف بصفرو ومحيطها وفي الوقت نفسه مرجعاً علمياً أساسياً للباحثين والمهتمين. وكان هدف تكريم الملتقى لأعلام المنطقة تحفيزهم على عطاء أكثر وتعميق ارتباطهم بموطنهم، وكذا تحفير شباب المنطقة على التلقي وأخذ العبرة ممن سبقهم والسير على منوالهم للرفع من شأن المدينة وتنميتها.

ونذكر من جملة من تم تكريمهم أيضاً بهذا الملتقى الأديب والقاص أحمد الصفريوي، اعترافاً بما أسداه للأدب المغربي وللثقافة الوطنية من إضافة أدبية نوعية. وكانت بلدية صفرو قد أصدرت بمناسبة تكريمه كتاباً بعنوان "حضور الذاكرة"، وقد جاء بسلسلة نصوص ومقالات تخص دراسات معمقة لتجربة المحتفى، مع تقديم للأستاذ عبد الرحمن طنكول تضمن ما طبع "الصفريوي" كفكر وأدب وخط تحرير.

ومن مبادرات الاحتفاء الرمزي في ملتقى صفرو أيضاً تلك التي خصصت لباحث أنثروبولوجي أمريكي هو "كيلفورد جيرتز"، احتفاء أثثته بلدية المدينة ومعها معهد الدراسات ما بين الجهات للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى بجامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء.

وكانت قد حضرت حفل تكريمه فعاليات فكرية عن مختلف القارات، علماً أن المحتفى به الذي يعد من تجارب البحث الميداني الوازنة سبق أن قضى فترة من الزمن بصفرو وجوارها مع فريق بحث خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. وهو ما أثمر حصيلة أعمال علمية هامة اعتبرت مرتكزاً للبحث الأنثروبولوجي في جامعة برينستون. هذا إضافة إلى من تم تكريمهم من أبناء المنطقة اعترافاً بما قدموه للمدينة من خدمات وتفان في التعريف بها وإثارة قضاياها وإبراز مؤهلاتها الثقافية والطبيعية.

وكان "ملتقى صفرو" على امتداد حوالي ثلاثين دورة ربيعية دوما من المكونات الثقافية والعلمية الأساسية محلياً، بحيث بلغ عدد مداخلات جلساته حوالي أربعمائة مداخلة، فضلاً عن عملية طبع ونشر أثمرت حوالي عشرين مؤلفاً، كلها تقاليد فكرية ظلت منتظمة إلى غاية الدورة السادسة من هذا الموعد، الذي من جملة ما أغنى به خزانة المدينة نذكر كتاب "صفرو مجتمعات ثقافات ومجالات ترابية"، ثم كتاب "صفرو اقتفاء أثر الذاكرة الجماعية"، مع أهمية الإشارة إلى أن دورات الملتقى منذ نسخته الأولى تقاسمتها قضايا عدة، نذكر منها التعريف بهوية منطقة صفرو التاريخية والثقافية، وكذا رصد الموارد المحلية وأساليب استثمارها، وأيضاً مقاربة التحولات الديمغرافية واسقاطاتها المجالية، فضلاً عن طبيعة التفاعل بين المكونات والأقطاب الترابية من خلال تجارب صفرو، إضافة إلى ما أثير حول أدوار حيوية منتظرة من الفاعلين الترابيين في مجال التنمية.

وقد انتهى الدكتور محمد الزرهوني رحمه الله في مؤلفه "العمل الثقافي والمشروع التنموي" إلى جملة استنتاجات جمعت بين ما هو شأن ثقافي متعاظم في الوقت الراهن وما هو تنمية مستدامة عبر مشاريع ترابية بمستويات متعددة.

وإذا كان هناك من تطور تكنولوجي رقمي متسارع-يقول-قد أسهم في دمقرطة نسبية في مجال العمل الثقافي الذي شمل أغلب مناطق المعمور، فإن هذا الامتداد المجالي بات بقلق في جهات أخرى لِما هو عليه من اكتساح لقوى متحكمة في إنتاج الثقافة، وبالتالي ما ظهر من ردود فعل تقول بأهمية الحد من العولمة الثقافية واستحضار هويات الشعوب، ومن هنا ما انبثق من وعي لدى هذه الأخيرة بالبعد الثقافي ومن دور جوهري له في تجسيد إرادات وحفز همم وحشد طاقة من أجل النماء والتطور.

وببلادنا وحول شأن الثقافة في علاقتها بالتنمية، أشار محمد الزرهوني في ختام مؤلفه إلى أنها ما تزال بموقع دون ما ينبغي في تدبير الشأن، وأن من جملة ما يطبع عملها افتقاده لتنظيم مؤسساتي يبقيه في إطار تطوع وتلقائية بعيداً عما هو مهننة واحتراف يقوم على تخطيط معقلن وتدبير محكم واستثمار لمنتج، مسجلاً أن العمل الثقافي هو بدون بعد تنموي، فضلاً عن كونه ما يزال يندرج في إطار فرجة وترفيه حيث غياب مشروع ومخرجات ملموسة ومن ثمة منتج.

ومن المؤكد-يقول-إن استشراف مستقبل العمل الثقافي يمر عبر مقاربة بمعالم واضحة من شأنها توحيد رؤى وتجميع طاقات ضمن مرصد وطني يستند إلى دليل عملي، يوجه عمليات تشخيص ودراسة وتوثيق وتخطيط لإضفاء دينامية على خريطة الفعل الثقافي وطنيا، وإسناد مكوناته الوظيفية إلى مشاريع ثقافية بطبيعة محلية وجهوية. وبقدر ما تشكل هذه المكونات المجالية روافد أساسية تجسد خصوصيات ترابية وسياسة قرب، بقدر ما تتطلب مشاريعها الثقافية أهمية بلورتها في مخططات جماعية للتنمية تقوم على تشخيص تشاركي لرصد حاجيات وترتيب أولويات التطلعات، ليبقى كل من العمل الثقافي والمشروع التنموي آلية ملائمة لعقلنة تدبير التراب، في أفق تأهيل العمل الثقافي وإدماجه في مسار نماء محلي ووطني، وفق عمل المشروع على أساس ما هو عليه هذا الأخير من مقومات ضبط وترشيد موارد وتحديد وتوجيه أهداف وتنزيلها.

عبد السلام انويكًة