في آواخر الألفية الثانية، وبالضبط سنة 1997 أصدر العلامة المغربي الأصولي المقاصدي سيدي فريد الأنصاري رحمه الله رواية ماتعة وعملا أدبيا قل ما تجود به أقلام الكتاب ونادرا ما ينسج على منواله ذوو الألباب، وسمه بـ ( كشف المحجوب ).

فما كاد هذا المولود الأدبي يستهل صارخا حتى نخسته أصابع الذين جثم الحسد على أكبادهم، وتوقدت نار الغيرة في قلوبهم وغلت مراجل ألسنتهم الفائرة المستعرة لاهثة : أنى لفقيه واعظ أن يأتي بسفر نفيس كهذا؟ وكيف لباحث في العلوم الشرعية أن يخرج من صلبه الأدبي الدر المنثورهذا؟

ونسي هؤلاء أن فريدا كان يضرب بسهم أفلج في اللغة العربية، وأنه مالك ناصيتها، وأنه شاعر قبل أن يكون فقيها، شاعر بالفطرة وأديب بالسليقة، ثم لا غرو في ذلك، فتاريخنا الإسلامي طافح بشخصيات جمعت بين الأدب الرصين والفقه المتين، أمثال ابن حزم وابن القيم والطاهر بن عشور وعبد الله كنون والحضيكي والمختار السوسي وعلال الفاسي وغيرهم كثير.

وحق لهولاء أن يتعجبوا، فإن الرواية فضلا عن كونها عملا أدبيا راقيا هي كذلك حرب ضروس ومعركة محتدمة بين القيم، إنها صراع بين الكرامة والهوان، بين العزة والذلة، بين العفة والشهوانية، بل هي مشروع إصلاحي يعالج قضايا إنسانية وحضارية وسياسية وإشكالات الهوية، التي طبعت مغرب ما قبل الألفية الثالثة.

إنها بحث عن الذات، بحث عن الفطرة، عن الإنسان السوي، يشبّه فيها الكاتب بطل الرواية ( المحجوب ) بالطائر الذي فقد ذيله، فصار يطير بغير اتجاه، ويصطدم بكل شيء ثم يسقط ليستريح، هذه حالة المحجوب بعد أن ألقته به الأقدار موظفا حكوميا في عالم المدينة ولمّا تنجلي عنه آثار البداوة بعد، فيسعى جاهدا للحفاظ على قيمه في عالم يموج في اللّا قيم، يخوض في سبيل صيانة هويته كل المعارك، يهدم كل صروح الكذب والبهتان، فيجعلها

تهوي كالجمل المعقور، لا يتوانى البتّة في استلال سيفه الفكري وامتشاقه من غمده الأدبي، فيفري أوداج خصومه أعداء الكرامة والقيم والهوية المغربية الإسلامية، أولئك الذين يستغلون المرأة، ويعتبرونها صناعة جسدية تقوم على ما تملك الأنثى من جمال، فإذا ما ذهب نورها وخمد شبابها، استبدلوها بأخرى أكثر إثارة ونضارة وشبابا، فاستخدموها في ترويج منتوج ميت تحييه بإثارتها، أو ديكور رديئ تزينه بنضارتها، أو مكتب مهجور تجذب إليه الزوار ببهجتها، أو قناعا يخفي من ورائه وحشا ضاريا ...

فيقطع أوداج هؤلاء جميعا، حتى إذا سقطت ووجبت جنوبها ورفعت قوائمها هامدة بلا حركة، واستيأس ألا تنهض مجددا، أرجع السيف إلى غمده ومضى هادئا مطمئنا.

لكن انتصارات المحجوب قابلها فشل ذريع في مجال آخر، لقد فشل في إيجاد حواء نفسه التي يظل يبحث عنها في الصحراء وقتا طويلا، ظل يلهث وراءها لكن لا أحد رش وجهه ببعض أخبارها، إنها ( سيدة البستان ) رمز العفة والعفاف والطهر والفضيلة، حتى إذا أحرق العطش كبده، وجففت أشعة الشمس دموع مآقيه، وأخنى عليه الذي أخنى على لبد، استسلم راضيا بعد ما دميت قدماه في سهوب الشيح من أرض الجنوب، مقتنعا بذلك مهرا لسيدة البستان.

إنها رواية تنتصر للمرأة، رغم النقد اللاذع الذي وجهه لبعضهن أمثال (سيدة النقابة) و (سيدة النادي) وأضرابهما، ورغم تصريحه في أكثر من مرة بأن المرأة لا تصلح للوظائف الرجولية ، ولم يقل الذكورية ، مما قد يعتبره البعض عنصرية أو احتقارا وازدراء للمرأة، رغم كل هذا فإن الرواية انتصار للمرأة، ولا أدلّ على ذلك من كونه جعل هذا العمل إهداء لـ ( أم أيوب ) إكراما لحصن العفاف العالي.

وقد أحسنت الدكتورة نجوى حيلوت قراءة الرواية حيت اعتبرت الشخصيات الرئيسة ( المحجوب ـ سيدتا النادي والنقابة ـ سيدة البستان ) عبارة عن النفوس الثلاثة للكاتب : النفس الأمارة بالسوء التي عبر عنها بسيدة النادي والنقابة والتي ظل يلعنهما في الرواية، والنفس المطمئنة المعبّر عنها بسيدة البستان، والتي ظل يبحث عنها ويلهث وراءها في كل فصول الرواية، والنفس اللوامة وهي المحجوب الذي ما انفك يبتعد عن الأولى ويقترب من الثانية حتى انتهت الرواية والحرب بينهما سجال.

هذا التأويل البديع يؤيده ما ذهب إليه أقرب الناس إلى الشيخ فريد الأنصاري، وهو أخوه الدكتور عبد الحميد الأنصاري الذي قال وهو يروي عن أخيه أن الرواية حديث نفسي وداخلي للكاتب.

ومهما يكن من شيء فإن كشف المحجوب أكثر من رواية، إنها مشروع إصلاحي وتربوي، خلع فيها فريد لباس الوعظ وارتدى ثوب الأدب، وامتطى صهوة الكلمة ثم همزها بعصا

لسانه فإذا هي أفراس من نور تحوم بك في أجواء الفضيلة وتقطف لك النجوم فائدة والأجرام المنيرة شريدة.



محمد بوعنونو