للعزلة حسناتها، لكن نظرا لطول امدها، أفرغت من جميع حسناتها، وأصبحنا نعيش في قلق مستديم، وأرق مزمن، أسئلة وجودية عديدة تداهم عزلتنا الإلزامية، وتجعل من فعل القراءة، تبديد غير مجدي لفائض الوقت الذي نعيشه. فالعزلة الاختيارية منتجة ويمكن أن تغيرك وتسهم في تغيير العالم، أما العزلة الإلزامية فهي لا تساهم الا في تطور نوبات الاكتئاب والرهاب الاجتماعي والوساس القهري.

في ظل العزلة الالزامية يبدو أن الجميع لاحظوا أن حياتهم قد تحولت إلى حالة بيولوجية بحتة، ليست مبتورة الأبعاد الاجتماعية والسياسية فحسب، بل أيضًا الإنسانية والعاطفية. إن المجتمع الذي يعيش في حالة طوارئ دائمة لا يمكن أن يكون مجتمعًا حرًا.

ليس من المستغرب أننا نتحدث عن الحرب من أجل الفيروس. إن تدابير الطوارئ تجبرنا بالفعل على العيش في ظروف حظر التجول. لكن الحرب مع عدو غير مرئي يمكنه الاختباء في أي شخص آخر هي أكثر الحروب عبثية! إنها في الواقع حرب أهلية، العدو ليس في الخارج، إنه في داخلنا. الأخرون يعتبرون الآن كناقلين محتملين للفيروس الذي يجب تجنبه بأي ثمن، والذي يجب أن تبقى على بعد متر واحد على الأقل لتجنبه، الموتى – موتانا – ليس لهم الحق في إقامة جنازة، ولا نعرف ماذا سيحدث لجثث أحبائنا. جيرتنا تم إلغاؤها. ماذا يحدث للعلاقات الإنسانية في بلد اعتاد على العيش بهذه الطريقة لا أحد يدري إلى متى؟ وما هو المجتمع الذي لم تتبقى له قيمة سوى البقاء؟

العزلة الإلزامية، لا يسعني أن أحبها إلا لبرهةٍ وجيزة. لا يسعني البقاء في مكاني فريسة هذه العزلة المشحونة بالقلق. أنتظر مجيء صديق. لكن الصديق لا يأتي. ألعن من أعماق قلبي هاتين الذراعين المخلوقتين للاحتضان. أودُّ لو أتخلَّص من يدي. وأن أفقد حاسة اللمس. في مثل هذه الحالة الروحية، لن أحتمل أي لقاء.

فالسعادة تناقض العزلة المفروضة، والرذيلة الوحيدة السوداء هي أن تتيقن بأنك وحيد وسط زخم اجتماعي مزيف. فنحن لا نحبّ أحدا أبدا. ما نحبّه فقط هو فكرتنا عمّن نتوهّم أننا نحبّهم. ما نحبّه هو مفهومنا عن ذواتنا.

أنا هامش في مدينة لا وجود لها. أنا تعليق مسهب على كتاب لم يُكتب بعد. أنا شخصية في رواية تمرّ مرور الأثير وتتوارى دون أن تكون قد وُجدت. أكتب وكأنّني أنفّذ عقوبة ما. والعقوبة القصوى هي أن اعرف أن كلّ ما كتبته عديم الجدوى، ناقص ويفتقر إلى اليقين. فالذين يعانون معاناة حقيقية لا يشكّلون مجتمعا. من يعاني يعاني منفردا.

صديقي ليس إيجاد مساراتك في الحياة أمرًا هينًا، أو واضحًا، "فنيتشه" يوافق ما ذهب إليه "بيكاسو" حين قال: «لمعرفةِ ما سترسمه، عليك أن تبدأ بالرسم». لا بدّ من البدء في سلوكِ الطريق من أجل استكشاف ذاتك واستكشاف مساراتك في الحياة، وقد اعتبر "نيتشه" أن الترياق الحقيقي الوحيد لهذه الغربة الوجودية يتلخص في أنه: «لا أحد يستطيع أن يبني لك الجسر الذي ستسلكه أنتَ، أنتَ ولا أحد سواك، لعبور نهر الحياة. قد يكون هناك عدد لا يُحصى من الممرات والجسور والمسارات وأنصاف الآلهة التي ستحملك إلى الضفة الأخرى بكل سرور. لكن ثمن هذا رهن نفسك والتخلي عنها لأجلهم. هناك طريق واحدٌ في العالم لا يستطيع أحد أن يسلكه سواك. إلى أين يفضي؟ لا تسأل، امشِ!».

يقول "تولستوي" في كتابه "اعتراف" (1882) "لا بأس، ستملك آلاف الأفدنة من الأراضي في محافظة سامارا و300 حصان، وماذا بعد؟… حسن جدًا، ستكون أشهر من جوجول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير، أو من جميع كتاب العالم – فما نفع هذا؟ ولم أستطع أن أجد جوابًا على الإطلاق".

كان احساس "تولستوي" العميق بالعدم هو حقيقةً معاركه، كانت حياته وأدبه معركة لتأخير الموت، أو السيطرة عليه، فإذا كان الموت هو الأفضل الآن فلا حاجة لتأخيره، ولهذا كان الانتحار أحد مصادر إلهام "تولستوي"، ليسيطر به على المواعيد الخارجة عن سيطرتنا، ومثال على ذلك في روايته «آنا كارنينا» والتي ظهر فيها الانتحار مرتين، الأولى لعامل في سكة القطار، والثاني انتحار "آنا كارنينا" نفسها، بعد ضياع كل شيء في حياتها؛ السعادة الزوجية، الابن، والزوج، والعشيق، والمكانة، والخذلان من أقرب المقربين.

"ساراماجو" هو الآخر عرف في أدبه بنظرته السوداوية الساخرة مما حوله من أفكار راسخة، فسخر من الخلود الذي شكل حلم الخلائق على هذه الأرض، ووضع النص في مواجهة متفردة مع القارئ؛ فاعتمد على أسلوب تغيب فيه الشخصيات الفردية والحوار عنصرًا أساسيًّا، ليستفرد بالقارئ وخيالاته، مستخدمًا تفاصيل التفاصيل في السرد لمزيد من التضييق والإحكام. وفي رواية "ساراماجو" «انقطاعات الموت» أدرج نصًا فى مديح الموت، دون ضغينة أو كراهية أو تذبذب في موقفه منه، فهو هنا يدعونا لمحبة الموت بحس فكاهي لاذع، بعدما انقطع الموت فى دولة صغيرة – لا اسم لها-وأصبح سكانها لا يموتون ويبقى مريضهم على حاله. بدا الأمر للسكان رائعًا في البداية، فهو الخلود، ولكنهم سرعان ما شعروا بالكارثة، فقد أثار غياب الموت فوضى ليس لها مثيل، في المؤسسة الحكومية، والمؤسسة الدينية والفلسفة، والمواطن العادي، حتى أصبح على البشرية أن تقبل طريقة تقسيم كل منهما للنفس البشرية.

في حين كان الخلاف الأبرز بين كل من "كارل يونج" وأستاذه، الذي سرعان ما انقلب عليه، "سيجموند فرويد" يكمن في الموت بوصفه وجه العملة الآخر للحياة، فحين قسم "فرويد" النفس البشرية إلى جزأين أساسيين، هما الوعي واللاوعي الذي عده مستودعًا لكافة الرغبات الجنسية الخفية، والذكريات المؤلمة، والأفكار التي يخشى الإنسان الإعلان عنها، اعتقد "يونج" أن اللاوعي إنما ينقسم إلى قسمين أسماهما اللاوعي الذاتي واللاوعي الجمعي، ويضم هذا الأخير التجارب الجمعية المشتركة مع النوع البشري ككل، وذلك يعني أن البشر جميعًا يولدون بمجموعة من المفاهيم والتجارب، يتوارثونها جيلًا بعد جيل منذ بدء الخليقة وحتى آخر الزمان، ولعل أبرزها حقيقة الموت، فنحن في الحقيقة يجب أن نموت لكي تستمر الحياة.

في ظل هذه الآراء والتيارات والمذاهب، يبرز فيروس "كورونا" بقوّة كمحور لنقاشات المهتمّين بالفكر والفلسفة: بعضهم يرى أنه فكَّك نظرية صراع الحضارات "لهينينغتون"، وأن وجوده ألغى معالم العولمة بمعناها التقليدي، آخرون وصفوا الفيروس التاجي بأنه عطّل فكرة الفرد ككيان أخلاقي، وهدم الفلسفة، في حين أبرز البعض استثمار النظام الرأسمالي للخوف من "كورونا" بغية مزيد من التحكّم في حياة الناس وسلوكياتهم وتقييد حرياتهم، من خلال إعادة الاعتبار لـ"الدولة الأمنية"، وآخرون رأوا أنه استطاع بناء نظرية أخرى لنهاية التاريخ بشكل يخالف ما قاله "فوكوياما"، أما أنا فأرى بأن جائحة (كوفيد-19) قد برهنت بطريقة قطعية أن أسعار الموت أصبحت تنافس أسعار الحياة.



محمد إبراهيم الزموري