قد يكون من المفيد أن نشكر مواقع التواصل الاجتماعي على الخدمات الجليلة التي تقدمها للبشرية في سبيل تقدمنا، للمساحات التي تمنحها لمن لا مكان له، لحق التعبير لمن لا صوت له. بفضل هذه الثورة التقنية استطاعت البشرية أن تعمم المعرفة على أوسع نطاق، وبفضلها أيضا مكنت كل إنسان من أن يصبح فاعلا اجتماعيا عبر النشر والتدوين وإنتاج المعلومة ومشاركتها. مجمل الاتفاقيات الدولية والدساتير الوطنية عملت على حماية الحق في حرية الفكر والرأي والتعبير تماشيا مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن الضجة التي أحدثها مشروع قانون 20.22 المتعلق بتقييد استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، تفرض علينا جملة من التساؤلات: هل يحترم هذا المشروع العهود الدولية في مجال حقوق الإنسان؟ هل تتوافق مقتضياته وروح الدستور؟ هل تعتبر الدعوة إلى مقاطعة السلع أو الخدمات أو التصويت جريمة يمكن أن يعاقب عليها القانون؟ وهل من الممكن الحديث عن ديمقراطية في ظل تقييد حرية التعبير؟

تدارس المجلس الحكومي يوم 19 مارس 2010 مشروع القانون رقم 20.22 المتعلق باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يطرحه بشكل علني عبر موقع الأمانة العامة للحكومة. غير أن تسريبه إلى مواقع التواصل الاجتماعي حوله إلى مادة دسمة للتناول الإعلامي بسبب بنوده السالبة لحرية التعبير، من قبيل تطبيق مقتضياته على المحتوى الالكتروني، سواء تعلق الأمر بالنشر أو المشاركة أو التفاعل. وقد نصت بعض بنوده على إنشاء هيئة مهمتها الإشراف والرقابة والسهر على كل ما ينشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل و امتلاك الصلاحية لحذف أي منشور من المنشورات. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نصت بعض بنوده أيضا على عقوبات زجرية، تراوحت بين التغريم والسجن، خصوصا البنود التي تضمنت الدعوة إلى مقاطعة بعض المنتجات أو البضائع أو الخدمات، أو التحريض على سحب الأموال وغير ذلك. أحرجت الأحزاب المشكلة للحكومة، خرجت بعض البيانات الحزبية تبرر وبعضها الآخر يندد ويستنكر. لم يفتح نقاش عمومي هادئ حول حرية التعبير وحول حدودها ومجالات تطبيقها.

ينسجم الدستور المغربي بشكل كبير فيما يتعلق بحماية الحق في الرأي والتعبير مع الاتفاقيات الدولية. يضمن الفصل 24 من دستور 2011 للأشخاص حرية الفكر والرأي والتعبير، وهو ما ينسجم مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، التي تنص على أن لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعاملات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها. على أن هذا الحق – تنص نفس المادة من العهد- يمكن تقيده بمقتضى قانون إن كان الأمر ضروريا حتى لا يرتبط الأمر بالحق دون الواجب أو المسؤولية. يقدم الفصل 28 من الدستور ضمانات أوسع فيما يتعلق بحرية التعبير، فحرية الصحافة لا يمكن تقييدها أو إخضاعها للرقابة القبلية، مثلما أن حق التعبير والنشر متاح للجميع وبكل حرية، عدا ما ينص عليه القانون صراحة.

نجد الجواب عن مسألة التقييد هذه في المادة 20 من نفس العهد التي تحظر أي دعاية للحرب، مثلما تحظر كل دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. وهذا معناه أن حدود حرية التعبير تتقلص عندما ينتج عنها ضرر يمس أمن الدولة والأشخاص، وليس عندما يتعلق الأمر بحماية مصالح الشركات والمقاولات. كما نجد نفس التقييد في دستور 2011 عند الحديث عن الحق في الولوج إلى المعلومة. لقد نص على هذا الحق في الفصل 27 وقيده لحماية المجالات التالية: الدفاع الوطني، أمن الدولة الداخلي والخارجي، الحياة الخاصة للأفراد، الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها بدقة.

إن إنتاج نص قانوني كيفما كان موضوعه دون سلك المساطر المعمول بها داخل الديمقراطيات الحديثة، ودون احترام سمو الدستور، يجعله هشا وفاقدا للشرعية السياسية، خاصة أن المشرع المغربي لم يضع النص للنقاش العمومي. أما تقييد حرية التعبير دون مبررات مقنعة أو دون أضرار مباشرة كالمس بحريات الآخرين أو تهديد أمن الدولة، يجعل النص فاقدا للمشروعية. ولا غرابة إن كانت بعض بنوده تنص على عقوبات السجن، مما يجعل حرية التعبير بمثابة جريمة يجب معاقبة مرتكبيها أشد العقوبات وكأننا أمام نظام غايته الانتقام لا تحقيق العدالة. إن السيطرة على وسائل النشر وتقييد حرية التعبير بهذا الشكل مؤشر دال على أن السلطة آخذة في التمركز أكثر فأكثر، وكلما اقتربنا من النموذج الديمقراطي بخطوة ننتكس بهذه القوانين خطوتين إلى الوراء.

في سياق هذا الجدل حول حدود حرية التعبير، عاشت فرنسا مشكلات قضائية بسبب الدعوة إلى مقاطعة السلع والمنتجات. التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى من طرف محتجين ينتمون إلى منظمة BDS، والتي كانت تدعوا إلى وقف التعامل مع إسرائيل من خلال مقاطعة سلعها. لقد اصدر قضاتهم أحكاما مختلفة بصدد هذه

الدعوات، استند بعضها في تعليله القضائي على مسألة التمييز العرقي أو الديني أو الوطني. لكن فرنسا كانت تغلب حرية التعبير إلا فيما يتعلق بالتمييز للأسباب السابقة، انسجاما مع الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان واحتراما لمبادئ الجمهورية، وليس لأسباب اقتصادية أو أسباب ترتبط بجودة المنتج أو غلائه. تبقى هذه القوانين والأحكام محط جدل بين مؤيد ومعارض، لكن الأساسيات التي تنبني عليها الديمقراطية يتم احترامها من خلال فتح النقاشات العمومية للعموم والتي تخصص لها حيزا زمنيا كافيا في القنوات الفرنسية.

إن أكبر خطأ ترتكبه الأنظمة السياسية هو فرض المزيد من التشريعات على مجالات قد لا تستدعي ذلك، فالقوانين التشريعية كلما ازدادت كلما تقلصت الحريات الفردية، مما يحرم المجتمع من المبادرة والعبقرية والتميز، ويجعله عرضة للتقهقر والتراجع عوض التقدم والتطور. لقد تصور سبينوزا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" أن السلطة عندما تعمد على السيطرة تصبح سلطة ظالمة تمارس العنف. فلا يمكن لأي سلطة السيطرة على الأذهان مثلما لا يمكنها منع الأفراد من إصدار أحكامهم أو التعبير عن أرائهم، فذلك يؤدي إلى نتائج وخيمة، فالسلطة المعتدلة هي التي تسمح بحرية التعبير.

عندما كتب جون ستوارت مل كتابه عن الحرية لم يكن يتخيل نوع المشكلات التي ستعترض الأنظمة مستقبلا عند حماية الحق في التعبير، لكنه وضع الأسس الصلبة التي تبرر الدفاع عن هذا الحق. إن تقدم المجتمع مرهون بالنقاش الحر والعلني ودون خوف، ذلك أن الجماعة التي لا تتيح هذه الإمكانية تنتج عقائد ميتة، عوض عقائد حية.

الخلوقي عبد اللطيف