تابع..

النقط المسطرة في المقال السابق(بجزأيه) توْضح أن مسؤول المؤسسة هو رئيسها، فإن صلُح صلحت، وإن فسد فسدت،، ولا يحمّل أي كان -غيره- مسؤولية المصير ولا تبعات المسار.. فإذا كانت المؤسسة هي الدولة، فإن المسؤول، في حالتنا، هو الملك..

لكن مهندسي الاستبداد في المغرب الأقصى، واستفادة من تراكم تجارب أجيال في المكر الخبيث، فقد برعوا بما لا يضاهى في وتمويه وتعويم وتلبيس المفهوم، كما تمت الإشارة إلى ذلك في المقال الأول(مقدمة)..

والتعرض للمشهد هنا لن يتم عبر التنقيب في متاهات المنظومة القانونية الناظمة لآلية الحكم، والتي لن تصل بك إلا إلى نقطة الانطلاق ولو اجتهدت، كما يكون بالغوص في يم القانون الدستوري وتفريعاته وإسقاطاته على حالة النظام المغربي.. فهذا شأن المختصين ويوجه للمختصين.. وإنما المنطلق هنا محض التأمل والتساؤل البديهي الذي يمكن للعامة أن تقوم به..

وهكذا، وببجاحة مستهجنة وسذاجة بلهاء واستبلاد مجحف في حق الضمير والوعي الجمعي الشعبي، دأب "الطباخون" على الإيغال في تورية وتمييع دلالة المسؤولية، مرة بطلسم أن البلد يدار بمؤسسات منتخبة، وأخرى بغطاء أن مؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات وجمعيات... هي من خانت الشعب، وثالثة بذريعة أن "الرجل" لا يعلم بكل شيء، ولا يصل إليه كل شيء تحت طائلة تعتيم الحاشية، وغير ذلك من الترهات التي لا يمكن أن تنبت إلا في مثل هذه البيئة التي أوجدوها بعناء بارع وعناية فائقة...

إن "مخدر" "خيانة المؤسسات الوسيطة"، وهي(الخيانة) قائمة بالصوت والصورة، لا يعفي المسؤول من مسؤوليته بصفته الرئيس الأعلى لمؤسسة الدولة، والوصي الأكبر على مصالح العباد، لأن أولئك الأنذال(القيادات السياسية والنقابية) تاقوا إلى نصيبهم من الكعكة لقاء خرسهم، بعدما رأوا أنها مخطوفة لا محالة.. طبعا هذا إضافة إلى أن المخزن نفسه هو من لغّم تلك الكائنات وفجرها من الداخل حتى تناثرت وتناسلت كالفطر السام..

أما مسوغ "عدم المعرفة"، الذي يلجأ المندسون بواسطته إلى بعث رسائل إيحاء بعدم معرفته بالأشياء والأحداث.. وهي مطية وإن كانت ساذجة، فإن مبرر الرد عليها أنها فعلا موجودة بشكل لا يمكن تجاهله لا من حيث عدد القائلين بها،، ولا من حيث حتى مستوى بعض هؤلاء القائلين!!!..

وهي في حقيقة الأمر عذر أقبح من زلة، ذلك لأن الحاكم إذا كان يعلم ما نعلم وهو ساكت رضيّ،، فإن الأمر يكون أمرَه، وتكون مخاطبته استنجادَ السياف من سيفه.. وإذا كان يعلم، ولا يوافق، لكنه مغلوب،، تكون المناشدة تعلق ضعيف بضعيف،، لم ينصف حتى نفسه.. وإذا كان لا يعلم، فالمصيبة أعظم(مع أن هذا مجاراة فقط)، لأن هذا لا يُعقل، من جهة لعلمه بكل ما يهمه هو بشكل مباشر، ومن جهة أخرى لأن ما نعلمه نحن البسطاء العزل لا يستقيم أن يخفى على من يملك الأجهزة والمؤسسات والإمكانات... وفي كل الأحوال لا يُعذر بجهله، لأنه لا يجوز له أن "يولى أمرنا ويغفل عنا"،، ولو أُعفي لكان حجة لكل مسؤول أن يتحجج بـ"لم أكن أعلم، "غلطوني""!!!..

وعليه، لا يُتصور إعذار رئيس أو مسؤول مؤسسة بحجة أنه لا يعلم، أولا لأنه نُصب ليعلم، ثانيا لأنه سخرت له الآليات والإمكانات ليعلم، ثالثا -في وقتنا الحاضر- بما توافر من وسائل الاتصال والتواصل والنشر والفضح... الكل يعلم بمن فيهم المواطن الفرد، بسيط العلم قليل الإمكان، رابعا لأن ما يمكن أن يُدّعى أنه "يهدد سلامته" يعلمه قبل أن يقع في نية أحدهم، خامسا إذا فتح هذا الباب فإنه يكون مخرجا لأي مسؤول متملص من المسؤولية، وعليه تفقد المسؤولية معناها وفحواها بتهرب المسؤولين بحجة "لم أعلم"!!!..

الطامة الموغلة في التيه والاستحمار والسكيزوفرينية أن هؤلاء المهندسين يجدّون في نفي المسؤولية عن رأس النظام ليْلا، ونهارا تكد الأجهزة المخزنية بكل أذرعها ووسائلها في تكريس طقوس تبجيل الحاكم في كل المظاهر، بدء بترسيخ قرن "السيادة" بذكره، وصولا إلى إقامة كل الأنشطة باسمه وتحت إشرافه ورعايته، وحصر الحكمة على تصرفاته، ونفي أي احتمال للخطأ عن ممارساته وتقديراته واجتهاداته، مرورا بإضافة كل المؤسسات له وإقرانها باسمه: الحكومة الملكية("حكومة صاحب الجلالة")، والقوات الملكية، والحرس الملكي، والدرك الملكي، والخطوط الملكية، والبحرية الملكية، والجامعات الملكية لكل الرياضات، ووكيل الملك، وتصدُر وتصدّر الأحكام باسم الملك...

فإذا ما تشاطرت وتساءلت عن السر في الاحتفاء الخرافي بسلالة حكمت دهرا، يوازيه اعتراف رسمي بفشل ذريع في كل المؤسسات والمنظومات؟ يتم الإفهام أنه هو المسؤول عن "سعادتنا"!!!..

فكيف تستقيم إدانة الحصيلة،، وتنزيه الفاعل؟ لأنه مما يعلم من المنطق بالضرورة أن حب المسؤول والتخلف ضدان: لا يجتمعان،، ولا يرتفعان!!!..

وتتعمق المفارقة حينما تسأل عن المسؤول عن شقائنا، فيكون الجواب -كما تمت الإشارة إلى آليات التتويه أعلاه- أن البلاد تدار من طرف مجالس منتخبة، بدء من ممثل دائرة الانتخابات المحلية الأدنى، إلى انتخاب رئيس الحكومة.. بمعنى أن المسؤول في البلد مسؤولان: أحدهما مسؤول عن "السعادة"،، والآخر عن "الشقاء"!!!.. مسؤول "ملائكي"،، ومسؤول "شيطاني"!!!..

إن هؤلاء الذين يريدون تمويه المسؤولية بادعاء وجود مؤسسات "الحكومة" و"البرلمان" وباقي "المؤسسات"، مطالبون بالإجابة فقط عن: إذا كان البرلمان والحكومة هما المسؤولان، لماذا "يعبر رئيس الدولة عن غضبه" بإعفاءات وإقالات...؟ هل يقوم بذلك بصفته مسؤولا، أم باستعمال الشطط؟ لأنه إذا كان يفعل ذلك بصفة المسؤول، فإن مقتضيات المسؤولية لا تقف هنا!!!..

بعبارة أوضح، وبشكل إجرائي مباشر يؤدي لفهم واستنتاج محسوسين: ما هي صفة الملك، إذن، وما هي مسؤوليته، وما هو موقعه في الدولة؟ ذلك أنه إذا كان هو الحاكم، فهو المسؤول عن هذا الحضيض، وأما إن كان لا يحكم، فلا فضل له، وبالتالي لماذا سنمضي له شيكا على بياض في التبجيل والسمع والطاعة...، بل وفي مقابل ماذا يتمتع بكل هذه الامتيازات والصلاحيات المطلقة؟؟!!!..

إن "قاعدة" "الملك مزيون غ اللي دايرين به قباحين"، ورغم المجهود الذي يستنزف في تكريسها، لا تعفيه من المسؤولية، لأن تلك الزمرة هي أول من يدخل تحت مظلة مسؤوليته، من حيث الاختيار،، والمراقبة..

في المقابل، القاعدة واضحة: مسؤولية خطأ(جريمة(...)، فشل...) وقع في أدنى/أقل مؤسسة، يتحمل مسؤوليته أعلى مسؤول في أكبر مؤسسة تنتمي إليها المؤسسة التي ارتُكب فيها ذلك الخطأ، ما لم يحدِّد هذا المسؤول الأعلى مسؤولا أدنى منه،، ويحمّله التبعات..

فالمسؤولية إذن "كائن مرتق"، إلى أن يستقر في منصب بشكل معلن،، محقَّق التبعات.. وكل مسؤول تصعد إليه وجوبا حتميا مسؤوليات من تحت إمرته من مسؤولين،، ما لم يُقمها في مستوى من مستويات التراتبية..

يتبع..



سعيد المودني