يمر النص القانوني كنتاج تشريعي بأزمة على مستويات العديد من النظم القانونية على مختلف مشاربها الإيديولوجية، فأصبح القانون غير عاكس أو ممثل لإرادة الأفراد، في إقرار قواعد إلزامية تنظم علاقاتها الجماعية والمجتمعية، بقدر ما أضحى أداة أو آلية تقنية للحكم، قد تصير أحيانا دعامة تعتمدها ليس الأغلبية فقط لتمرير ما يناسبها من قوانين، بل كذلك الأوليغارشية التي قد تستغل فراغا أو نقصا تشريعيا، لتمرير ما يحمي مصالحها من قوانين ولو كان ذلك على حساب حقوق الأفراد الدستورية.

ومن بين الأزمات التي يعاني منها القانون، أزمة عدم قبول الفرد والعقل الجماعي لنص قانوني ما، سواء كان فكرة أو بلور في مسودة أو صار نافذا، وغالبا ما يكون مردها جهل الفرد بالقانون، الناجم إما عن الكم الهائل من النصوص القانونية التي يتم سنها في ميادين شتى يغيب فيها التفكير المجتمعي عند إعدادها، إعداد قلما يتخذ شكل مقترحات، بل يأتي في شكل مشاريع تهيأ في مختبرات تقنينية لا تعتبر، أو بالأحرى لا يدخل في ناموس عمليتها التقنينية إرادة الشعب واختياره لتنظيم منحى ما في وقت ما وبشكل يحقق معه إجماعا عليه، أو توافقا نسبيا يوازن بين مختلف مصالح مكونات المجتمع.

لا ريب في أن هذا الكم الهائل من التقنين، يجعل التشريع محط تشكيك في قدرته على استيعاب آثاره على الفرد والمجتمع، خصوصا أمام ضعف التكوين الحقوقي والقانوني، كما يتعذر أحيانا حتى رجل الحقوق تتبعها وإدراك لغتها، فما بالك بالإنسان العادي، ومن ثمة كيف يتسنى قبول مضمونها وتبني مقتضياتها.

وغالبا ما تعتبر القوانين فئوية، لمّا تعدها جهة ما لمصلحة ضيقة لفئة ما، ليس فقط بمفهوم أن فئة ما كانت وراء إعدادها، بل عندما تكشف دراسة آثارها الجهة المستفيدة من أبعاده التطبيقية.

لكن الأنكى من كل ذلك، هو عندما يصير القانون آلية للسيادة، أي سيادة فكر على حساب فكر آخر، طرف في المجتمع على طرف آخر، سواء أكان أقلية أو أغلبية، تحكّم فئة في فئة أخرى أو فئات أخرى، وقد يصير هاجس السيادة بالقانون محور أزمة الثقة في القانون وسلامة سريرة مقننيه، وبالذات عندما يفهم أو يعم إحساس إما حدسي فطري أو ناتج عن انتشار حكم قيمي مسبق، بأن النص القانوني المزعوم تقنينه، هو تقنين انتقامي من وقائع أو حالة من الاظطراب في علاقات المجتمع تضررت منها فئة ما، تتهم بأنها من قننته أو ساهمت في ذلك، أو دعمت من وراء الستار تقنينه، ولو كانت نية من هم فعلا وراء إعداده سليمة تهدف إلى الحد من ظاهرة مجتمعية سلبية.

من هذا المنطلق، لا يكون للمجتمع وبالتالي الفرد أي دور، كما عالج ذلك علماء الاجتماع القانوني ظاهرتي التقنين والتشريع، فيصير نصا مفروضا لا تقبل عدالته، ما دام الفرد يرى فيه نصا مفروضا عليه، مس بحق أو حقوق يكفلها له الدستور والقانون، والأشد في ذلك، هو عندما تكون هذه الأحاسيس والأحكام تتقاسمها فئة عريضة من المجتمع.

وقد يزداد هذا الشعور الاعتباطي الرافض للنص القانوني، عندما يثار نقاش مجتمعي يولد لدى المخيال الجمعي أن مؤامرة أو تدبيرا دبر في كولسة ما، من أجل تمرير ذلك النص القانوني الغاصب للحقوق، فما بال المتتبع إذا كانت بعض من هذه الحقوق أو أهمها هي الحق في الرأي والتفكير، وخصوصا حق التعبير عن الرأي المخالف أو الرأي الناقد، هذا الأخير يدخل في زمرته الحق في انتقاد السلطة، والحق في الدعوة إلى المقاطعة كآلية ديمقراطية لمواجهة الرأسمال غير المواطن، أو تحفيز ذلك المواطن وتشجيعه من خلال دعوة الجمهور على الإقبال على منتوجاته المحترمة لمعيار توازن الجودة والثمن مثلا، آلية تبنتها التكتلات المهيكلة أو العفوية للمستهلكين، وأحيانا الفئات المعارضة لتوجه سياسي أو إيديولوجي من أجل الحد من امتداده وآثاره السلبية على قيم ومبادئ المجتمع.

وعلى إثر ما أسلف، فإن البيئة التي تقنن من أجلها مثل هذه النصوص القانونية تلفظها، ليس أحيانا لعدم جدواها، بل لأن منسوب الثقة فيها ضئيل، إن لم نقل منعدم، مرده إلى الخلفية أو الغاية اللتين كانتا وراء تهيئته، ما يفسح مجالا لأسئلة ناقدة إيحائية لا يحمد عقباها، فتكون انطلاقة منطقية للتشكيك في نية النص، وكل النصوص المقننة التي قد تهيئها الجهة المنظور إليها بعين الربا والتخوف.

أكيد أن لحرية التعبير حدودا، لكن رسم خطوط حمراء لها قد يتخذ أحيانا شكلا غير واضح المعالم، تتفاقم معه مشاعر التخوف من سلب الحرية، ومن ثمة وأد كل إرادة تهدف إلى النقد البناء، وخفوت صوت كل من لا يوافق أو يعارض تصورا أو توجها أو وضعا ما.

هذا الوضع لا يمكن أن يضفي على النص القانوني بعدا ديمقراطيا، كلما كان هناك تغييب لمنهاج التقنين التشاركي، يفتح فيه نقاش عمومي، يعبد الطريق للنقاش التشريعي المبني على تصورات المجتمع، وإلا فسيعم تخوف مشروع لدى كل فرد، يتولد له انطباعا عفويا نفسانيا أن حقوقه الأساسية في خطر، ما سينعكس سلبا على الدور الذي يتعين عليه أن يلعبه كفرد إيجابي حامل لأفكار انتقادية خلاقة تنحبس تحت وطأة الخوف من المسائلة.

لا غرو أن النص القانوني يكون فعالا وفعليا عندما يحسن اختيار مصطلحاته، يوحد مفاهيمه، فتدقق معانيه، وتضبط آثاره، والعكس يصير عندما يكون فضفاضا يجعل المواطن يخاف من كابوس كل ما من شأنه، خصوصا عندما تكون ظرفية عرضه على النقاش الحكومي قد أخطأت الميعاد، الأمر الذي سيصعب معه الظفر بالنقاش التشاركي الفعال للمواطن، سواء كان عاديا أو رجل حقوق أو قانون.

إن ترتيب الأوليات، تدبير الأزمات، خصوصا في اللحظات العصيبة التي يمر منها المجتمع، تقتضي ليس التفكير بمنطق الردع والزجر والترهيب بالنص القانوني الجزائي، بقدر ما تقتضيان فتح النقاش العمومي بشتى الوسائل وصوره بغية حوار وطني تشاركي يبادر فيه الفرد كقوة اقتراحية لتعزيز النص القانوني أو طرح تعديلات عليه، فيكون القانون نافذا في المخيال الجمعي قبل أن يكون في الواقع العملي، عكس الحالة التي يفرض عليه قانون يمس في العمق سلوكا اعتاده ويهدد حقا أو حقوقا من حقوقه الأساسية.

لب القول إن الصياغة، اللغة، الأسلوب، الظرفية والطريقة، لم يوفق فيها نسبيا معدو مشروع قانون 22ــــ 20، المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، ما يجعل مشروعا القول إن هذا المشروع يتعين أن يناقش بعدما تمر الجائحة وتطمئن الأنفس، فتصير الظروف المجتمعية مناسبة تفاديا لجدال وسجال عقيمين حول النوايا وتفاصيل جزئيات أسباب النزول، هذه الأخيرة يعشعش فيها الشيطان كما يقول المثل المأثور، فتجعله ليس لسيادة القانون، بل للسيادة بالقانون.

طارق زهير