لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟، هذا هو السؤال الحارق الذي طرحه مفكرو النهضة وهم يعاينون الفرق الكبير والبون الشاسع بين تخلف المسلمين وتقدم غيرهم من الأجناس والملل الأخرى، ولا يزال السؤال نفسه يتردد بالقوة نفسها في أوساط المفكرين والباحثين، ولا تزال الإجابات بصدده تتعدد بتعدد المرجعيات والاختيارات النظرية والمنهجية، بين من يرى سبب تخلف المسلمين يكمن في الفكر الديني حسب تصوره لهذا الفكر وبين من يرى عكس ذلك تماما ويؤكد أن سبب هذا التخلف كامن في الابتعاد عن الدين؛ ما يعني أن المسألة الدينية حاضرة بقوة في كل المقاربات التي تروم البحث عن تفسير علمي ومقنع لتخلف المسلمين وتقدم غيرهم.

المؤكد أن جزءا كبيرا من الجواب عن هذا السؤال الإشكالي قائم في نظرتنا الملتبسة إلى موضوع الدين أساسا، سواء بالنسبة لمن يعتبره عائقا أمام التقدم أو بالنسبة لمن يعتبره سبب تقدمنا المؤمل؛ فالملاحظ أن الدين عند الكثير من المسلمين أو الذين يعيشون في البلاد الإسلامية، كانوا علمانيين أو متدينين، هو بالأساس مجموعة شعائر تعبدية وفروض شخصية محدودة، صلاة وزكاة وصيام وحج، تضاف إليها نوافل من جنسها، أذكار وقراءة للقرآن وصلوات، ما يعني أن الدين كما التدين هما عبارة عن عبادات فردية وممارسات ذاتية خاصة، لا علاقة حقيقية لها بالواقع العملي ولا بالحياة اليومية للمسلمين، وقلما يتم الانتباه بالعمق المطلوب إلى هذا التعارض الحاد بين منطق الدين في نصوصه الأساس وأشكال التدين المعروضة في الواقع، وعلاقة ذلك بسؤال التخلف الذي نعانيه. وحتى في حالة الإشارة إلى ذلك أحيانا يكون الجواب الجاهز هو الدعوة إلى المزيد من الأذكار وقراءة القرآن وغيرها من نوافل العبادات، فأصبحنا أمام سيل من القنوات الدينية، أو ما يسمى كذلك، التي تعالج تخلف المسلمين الحضاري وتراجعهم على كافة المستويات بالدعوة إلى ترديد بعض الأذكار والتسبيحات طول اليوم، ما يؤكد المعنى الطقوسي الذي يفهم به الدين ويمارس به، سواء من قبل العلمانيين أو المتدينين على السواء؛ فالأطروحة في نهاية المطاف واحدة، يعضد بعضها بعضا، بوعي أو بغير وعي. العلماني يعتبر الدين مسألة شخصية وعبادات فردية تخص ذات الإنسان، والمتدين يؤكد هذا المعنى واقعيا ويترجمه عمليا. هنا بالضبط، في تقديري المتواضع، يكمن جزء كبير من الجواب عن سؤال تخلفنا المزمن.

إن الدين عند أكثر المسلمين لا يتحول إلى موقف سلوكي يومي عاقل، يصنع التقدم، ويندمج في الحياة المعاصرة، ويساهم في تقديم الإجابات المطلوبة للإشكالات اليومية؛ فمعظم المسلمين، بمن فيهم الكثير من الوعاظ والمتكلمين باسم الدين عموما، يفضلون دائما الخوض في الأشكال والجزئيات وبعض الفقهيات المتعلقة بأركان الإسلام، ولا يمتلكون القدرة على معالجة الأسئلة الحقيقية، ولا ينفذون إلى القضايا الأساس التي تهم الإنسان اليوم وتؤرقه في صباحه ومسائه. ولذلك، يكثر الحديث عن التدين الشعائري، ويقل الكلام عن التدين العملي الواقعي، يكثر الحديث عن تدين الأذكار ونوافل العبادات، ويقل وربما يغيب الحديث عن تدين إتقان العمل، وعدم الغش، والحرص على قضاء مصالح الناس، وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الخاصة، وعدم الظلم، والمحافظة على البيئة، وإعمال العقل، وحسن الإصغاء للمخالفين، والتزام أدب المناظرة والحوار، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، ثم ترجمة كل هذا الكلام إلى واقع عملي. وهنا يكمن الجزء الآخر من الجواب عن سؤال تخلفنا وتقدم غيرنا؛ فأكثر المسلمين لا يفهمون من الدين إلا جانبه الشعائري، ولا يهمهم منه إلا الصلاة والصيام والزكاة، في معانيها الشكلية الظاهرة. ولذلك، يكثر عندنا الحديث حول الدين، ويقل عندنا المتدينون، بالمعنى العميق والدقيق للكلمة. نتحدث عن الإتقان في العمل ونمارس الغش والتدليس، نتحدث عن العلم ونمارس الجهل ونعشق الخرافة والشعوذة، نتحدث عن النظافة ونعيش في الأوساخ ونلقي بالقاذورات في الطرقات، ونحن نرتدي الجلابيب الفاخرة، نتحدث عن العدل ونمارس الظلم بكل ألوانه وأشكاله، نتحدث عن السعادة الزوجية وأكثر أزواجنا وزوجاتنا تعساء، نتحدث عن التضامن وكلنا يخلو إلى خصيصة نفسه ويحرص مصالحه وأنانياته؛ ما يعني أن الكثير من المسلمين لم يرتفعوا إلى مستوى الدين ومقامه، ولم يتمكنوا من تحويل تعاليمه وهداياته إلى عقل ضابط ناظم، وإلى تطبيقات عملية تصنع الحياة وتبني الحضارة يوما بيوم، وهذا بالضبط هو الفرق بيننا وبين من تقدمونا.

نحن نتكلم في الدين، ونفشل في النظر كما التطبيق، وهم يبنون أوطانهم ويتقدمون. العلمانيون في بلادنا يتحدثون عن الدين الطقوسي، والمتدينون يمارسون الدين الطقوسي، والحياة تشكو الفراغ، وتنتظر من يسوسها ويقودها، بالقيم والأخلاق التي يدعو إليها الدين ابتداء؛ ما يعني في النهاية أن العقل المسلم، علمانيا كان أو متدينا، لم يتمكن من استيعاب فلسفة الدين وما يعد به، كما لم يتمكن من ترجمة تعاليمه إلى تطبيقات وآثار حية. لكل هذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم.

 

إبراهيم أقنسوس