"لا تعطني كل يوم سمكة بل علمني كيف أصطادها" ، مثل صيني معروف وشائع، آمن به الصينيون وطبقوه في حياتهم، ولذلك انخرطت الصين في الصناعة بكل ضروبها، واستطاعت بمنظوري الوفرة، وانخفاض السعر أن تغزو العالم بمنتجاتها، حتى إنه لا يكاد يخلوا منها بلد من البلدان بل بيت من البيوت.

أضحت عبارة " صنع في الصينmade in china " مألوفة بين جمهور المستهلكين، بالرغم مما قد تحيل عليه أحيانا من رداءة الصنع، وغياب الجودة،، ولكن العبارة، برغم كل ذلك، كانت ذات دلالة قوية على أن الصين تكرس نفسها يوما بعد يوم باعتبارها مصنعا للعالم، وأنها ممول للأسواق بحاجاتها من المنتوجات. وشاءت الأقدار أن لا تصدر الصين سلعها فقط، بل أن تصدر إلى العالم مع مطلع هذه السنة فيروس كورونا كوفيد 19، وهو ما حذا بالكثيرين إلى القول بفكرة المؤامرة، الأمر الذي لمحت إليه أكثر من مرة عبارة الرئيس الأمريكي "ترامب" التي كان ينسب فيها فيروس كورونا إلى الصين، بحديثه عن "الفيروس الصيني"، وردة الفعل الصينية على هذا التلميح، وهو ما يفسر كذلك عزم العديد من الجهات والدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية و أستراليا في شخص رئيس وزرائها "سكوت موريسون" على متابعة الصين قضائيا لتماطلها في التحذير من خطورة الفيروس وعواقب تفشيه وتعتيمها على الحقائق المتعلقة بعدد إصاباته وضحاياه.

ومهما يكن من أمر ظهور الفيروس وتفشيه، وسواء أكان تطوره طبيعيا أم مفتعلا، فإن الذي يعنينا هو كيف استفادت الصين من إمكانياتها الذاتية والصناعية في مجابهة هذا الوباء، والذي يعنينا كذلك هو كشف الجائحة جراء ما فرضته من انكفاء الدول على نفسها بعد غلق حدودها وإرجاء كل علاقاتها ومبادلاتها، عن مدى حاجة غالبية الدول للمنتوج الصيني، بعد عجزها عن توفير احتياجاتها، لاسيما الطبية بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية. بل وكشفها عن هشاشة الاقتصادات والعلاقات الدولية، وأواصر الجوار حتى بين الدول التي تعاهدت على التحالف ضد كل طارئ، وأخلصت النية على مناصرة بعضها البعض أمام ما يهددها، والذي هو هذه المرة جائحة غير متوقعة ولا مسبوقة.

في خضم هذه الأزمة الإنتاجية والاستهلاكية، بدا واضحا أن الرهان على التصنيع المحلي حل لا بد منه، وبدا جليا أن الدول التي سلكت هذا المنحى ستكون هي الأقدر من غيرها على التخفيف من ثقل الوباء وتقليص أضراره، وكان المغرب من بين الدول التي سلكت هذا النهج، إذ عرف مجموعة من

المبادرات التي همت إيجاد الحلول في النقص الحاصل في المستلزمات الطبية، فأمسينا نشهد العديد من المبادرات الفردية والجماعية لتصنيع الكمامات الطبية والأقنعة الواقية، وأجهزة التنفس، وممرات التعقيم... وبتنا نسمع بدول كانت تحجر علينا بدعوى تفوقها الصناعي أو المعرفي تنظر إلى ما يحققه المغرب بعين الغبطة أو بعين الحسرة والحسد أحيانا وهي تقارن عجزها بقدرته، وبتعهده بتوفير احتياجات المواطنين والمؤسسات بأثمنة مناسبة وغير متوقعة، وهو الأمر الذي غير نظرتنا إلى هذه الجائحة التي كنا لا نرى إلا الجانب المظلم منها، فإذا نحن بجانب مشرق بدا جليا في الإيمان بقدراتنا الذاتية التي طالما غيبناها بفعل تعودنا على المنتوج المتوفر و الجاهز للاستهلاك الذي كانت تغرقنا به الدول التي جعلتنا نألف " السمك الجاهز" دون أن تترك لنا فرصة لتعلم كيفية الصيد، ولكن الجائحة اضطرتنا إلى التعلم بعد أن حرمتنا من " سمك" الآخرين، فبتنا نحس أن هذا الحجر العالمي قد فتح أمامنا الفرصة لاستعادة الثقة بالذات، تلك الثقة التي سلبتنا إياها عهود التبعية، وانتظار الحلول من الآخر .

قد يرى المولعون بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس في الأمر مجرد لحظة عابرة، وقد ينظرون إلى ما تم تحقيقه بعين التهوين أو السخرية، ولهؤلاء نقول: هل كانت كل سلع الصين التي أغرقتنا وأدمنا على استهلاكها في مستوى عال من دقة الصنع وكفاءة الأداء؟ هل كانت كل الدول المعدودة في مصاف البلدان المتقدمة صناعيا قادرة على توفير كل حاجياتها في هذه الظرفية الاستثنائية؟ حتما إن الطريق أمامنا طويل والهدف ناءٍ، ولكن البدء بأول خطوة على الطريق أفضل من مراوحة المكان، فقليل اليوم قد يغدو كثير الغد، وهين اللحظة قد يمسي جيد المستقبل، لنستفيق ذات يوم على تحول عبارة "صنع في الصين" إلى عبارة "صنع في المغرب"

 

لهؤلاء نقول: أليس أول الغيث قطرة؟



 أحمد بولوزة