على إثر الاجتياح الواسع الذي تعيش على وقعه بلدان العالم منذ حلول السنة الميلادية الجديدة 2020، من قبل كائن هلامي لا يرى بالعين المجردة، الذي لم يفلح كبار العلماء إلا في معرفة أنه فيروس متطور تحت اسم كورونا المستجد "كوفيد -19"، دون القدرة على تفكيك "شفرته" وإيقاف زحفه. حيث تواصل انتشار العدوى وتزايدت أعداد الوفيات بشكل لافت، وعم الهلع والفزع سائر البقاع والأصقاع، مما ساهم في تصاعد اهتمام المواطنين في بلادنا بأشرطة الفيديو والوصفات الشعبية حول التداوي بالأعشاب، رغبة منهم في الإفلات من ضربات الوباء القاتلة.

والتداوي بالأعشاب ليس سوى أحد أنواع الطب التقليدي، الذي يتم فيه الاعتماد على استعمال النباتات ومستخلصاتها في التعافي من بعض الأمراض والوقاية منها، ويعرف كذلك بالطب النباتي أو طب الأعشاب، ويشمل في أحايين كثيرة منتجات النحل والفطريات والمعادن وبعض أجزاء الحيوانات، حيث كان الإنسان منذ وجوده الأول على سطح الأرض يعمد إلى المداواة من الأمراض أو معالجة أعراضها أو زيادة الطاقة والرغبة في الاسترخاء وإنقاص الوزن، تارة عن طريق الصدفة وأخرى عبر التجارب، التي كان يكتسبها من خلال مراقبته بعض الحيوانات كالقطط والكلاب عند تناولها أشكالا من النباتات أثناء المرض والشعور بالأوجاع وغيرها، والتي لم تكن تسلم أبدا من مضاعفات ومخاطر.

ويشار في هذا الصدد إلى أنه بعد ظهور الطباعة في القرن الخامس عشر للميلاد، كثرت المؤلفات عن العلاج بالأعشاب، إذ لم يكن هناك بيت من بيوت أوربا يخلو من مختلف النباتات. واستمر التداوي بها يرتكز فقط على التجارب والنتائج دون الانتقال إلى الاهتمام بالبحث العلمي، أو التعرف على مكوناتها وطبيعة موادها الفعالة والشافية أو طرق تأثيرها في أجسام المرضى. وكان الأطباء وحدهم من يهتمون بجمع الأعشاب وتحضير الدواء منها، إلى حين افتتاح أول صيدلية نباتية بإيطاليا سنة 1224 ميلادية، ليصدر القيصر مرسوما خاصا بشأنها، يحصر بموجبه مهمة تحضير الأدوية من الأعشاب في الصيادلة دون غيرهم، على أن يكتفي الأطباء بمهمة تشخيص المرض وتحديد نوعية ومقدار الأعشاب الممزوجة الواجب تناولها وكيفية استعمالها...

بيد أن ما لا يستسيغه عقل ويقبل به منطق في ظل ما يشهده عالم اليوم من تطور في جميع مناحي الحياة خاصة في مجال الطب، وما أصبحت عليه المجتمعات من اهتمام واسع بصحة وسلامة أفرادها، هو إصرار بعض الطفيليين على جر الناس إلى تلك العصور البائدة، غير عابئين بما قد يترتب عن تهورهم من أخطار على صحة وسلامة الناس، مستغلين في ذلك ارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة في البلدان المتخلفة.

إذ بالرغم مما دعت إليه السلطات ومصالح الصحة العمومية من تدابير وقائية فور ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" ببلادنا، للحد من تفشيه وتأمين سلامة وصحة المواطنين، تتمثل في ضرورة الالتزام بقواعد النظافة واستعمال الكمامة والتباعد الاجتماعي والحجر الصحي والانصياع لقانون حظر التجول، أبى منعدمو الضمير من تجار الأزمات الذين تتفتق عبقريتهم القذرة في مثل هذه الظروف العصيبة عن ألاعيب خبيثة في التضليل والمغالطات، إلا أن يسارعوا مرة أخرى إلى فبركة أشرطة فيديو والترويج من خلالها على مواقع التواصل الاجتماعي لمجموعة من الوصفات الشعبية من الأعشاب الطبيعية، مثل الحرمل والشيح والينسون وحبة البركة والقرفة والقرنفل وغيرها كثير، مدعين أن لها مفعولا سحريا خارقا في التصدي للجائحة وإنقاذ حياة المصابين في بضع ساعات.

فأمام ارتفاع أعداد حالات العدوى والوفيات وتضاعف منسوب التوتر والخوف، وإزاء عدم قدرة كبار الأطباء والعلماء على التوصل إلى لقاح مضاد أو علاج طبي مشهود له بفعاليته حاليا، تضاعف البحث لدى الكثيرين عن طرق بديلة تساعد في تقوية جهاز المناعة، وتكفيهم شر الإصابة بالوباء اللعين، لتتناسل الشائعات والمعلومات غير السليمة عن العلاج وتعقيم البيوت، من لدن أشخاص يقسم بعضهم بأغلظ الأيمان أن الوصفات من اكتشافاتهم الشخصية الصرفة، حقيقية ومجربة، ولا يريدون سوى الدعاء لهم من أجل نيل رضى الله وشفاعة رسوله الكريم. وهو ما ساهم في ازدهار تجارة الأعشاب بشكل أكبر مما عرفته في التجارب السابقة، إبان انتشار الأمراض والأوبئة.

وليس ما يحز في النفس هو فقط ما صرنا نراه من تهافت الكثيرين على الأعشاب لعلاج الأمراض، معتمدين في ذلك على الأشرطة المصورة الزائفة، أو ما يتم الترويج له من أخبار مغلوطة وبدون سند علمي ولا عيادات طبية مختصة في الكشف عن الأمراض، ولا حتى أدنى دراية كافية بالنباتات المستخدمة ومدى تأثيرها على جسم الإنسان، وإنما في إيجاد الدكتور محمد الفايد الأخصائي في التغذية، والشهير بما ينشره من ثقافة غذائية في المحطات الإذاعية والتلفزية، يشجع على الخرافة وإشاعتها بين الناس عبر النصح بطرد فيروس كورونا من الجيوب الأنفية باستنشاق بخار القرفة والقرنفل...

إن أمل البشرية في مكافحة الأمراض والأوبئة بما فيها "كوفيد 19" والتغلب على أسبابها، هو الطب القائم على البحث العلمي والمعرفة الواسعة، وليس باللجوء إلى تلك الأساليب البائدة والوصفات التقليدية غير المجدية، التي من شأنها إضعاف المناعة وإلحاق الضرر بوظائف القلب والكبد والكلي... فعلينا جميعا كل من موقعه التحلى باليقظة وروح الموطنة والعمل سويا على التصدي لكل المخادعين، حفاظا على صحة كافة المواطنين بالبلاد.



 اسماعيل الحلوتي