تابع..

في هذا المقال الثاني من هذه السلسلة التي أتعرض فيها لمقاربة مفهوم المسؤولية، والتعرض لبعض الشبهات المرتبطة به، سأسرد بعض الحجج التي أراها دليلا على أن المسؤولية في الوحدات المؤسساتية هي مسؤولية المسؤول فيها، ما لم يُثبت(المسؤول) العكس على رؤوس الأشهاد، بل ويحق الحق..

ونظرا لأن المقال طويل، فقد جزأته جزأين..

المسؤول هو "المسؤول".. هو الموقّع والممثل والمنسق.. هو من لا يعصى له أمر..

والحديث عن المسؤولية هنا يخص المسؤولية المؤسساتية أو الإجرائية التي تمكن صاحبها(أو تمنعه، أو لا تتيح له) من الفعل المغيّر، بما يمتلك من قدرة تُوفرها له الآليات والصلاحيات المنوطة بالمنصب، والتي على أساسها تم تفويضه للقيادة. وذلك وفق حدود التعاقد السائد في بنيات القانون والفقه الدستوري.. وهو أمر لا ينفي طبعا المسؤولية الفردية للأفراد، كل في نطاقه، والتي بدورها تقع على السلطة القائمة مسؤولية محاسبتهم عليها في دنيانا هذه، كما هو معمول به عمليا في الدول المحترمة ونظريا في الباقي، وكما يرسّم ذلك المنطق، ما دام الناس مجبولون على الميل لرغبات النفس، ما لم يردعهم رادع..

غير أن كثيرا من الناس، ولعوامل مختلفة وأسباب متنوعة، لا يتورعون عن إدانة الشعب الأعزل المحكوم،، بدل تجريم المسؤول المتمكن الحاكم!!!..

والحال أن إدانة الشعب المقهور وتحميله المسؤولية في التخلف والوضع المزري الذي يتخبط في وحله البلد، من جهة هو تعميم توصيف لا يخلو من عنصرية وكيل اتهام، لشعب مستضعف مستباح لا يمتلك صفة الدفاع عن النفس، ولم يجد من ينوب عنه في ذلك، ومن جهة أخرى هو تماه تام مع دهماء الناس وعملاء المتغلب، بدل تسمية الأمور بأسمائها ونسبة الصفات إلى أصحابها، وهو أن المسؤولية بالتحديد السابق هي مسؤولية حصرية للحاكم مقتصرة عليه، بالنظر إلى الأسباب والحيثيات والقرائن والأدلة التالية:

· دلالة المصطلح ذاتها، حيث يرمز لفظ المسؤول لـ"المفوض" الحاكم، وليس للشعب المحكوم.. فالمسؤول بالمعنى اللغوي إذن هو "المسؤول" بالمفهوم الاصطلاحي.. وهذا يغني عن كثير من التوضيح والاستدلال..؛

· التباري إنما يكون من أجل اختيار الحاكم الذي تتم المراهنة عليه قصد قيادة المجتمع(الشعب) للأفضل، وفي ذلك يتنافس المتنافسون، أما إذا كان الشعب هو من يتحمل المسؤولية، فلم الانتخاب أصلا، ما دامت العملية هي لتغيير الحاكم وليس الشعب؟؟!!!..

بل لمَ يتم الانتخاب/التباري/التعيين قصد تغيير مسؤولي جميع المؤسسات: الدولة، الحكومة، الحزب، النقابة، الجمعية، النادي، المصلحة، القسم... مع أن القواعد(المواطنون أو المنتسبون أو المنخرطون) ثابتون؟؟!!!..

إن التعويل هو على تغيير القيادات التي تشرف على تغيير سلوك الشعب، أما التعويل على المسؤولية الفردية هو محض نظرية فوق طوباوية؛

· كما مر في الجزء السابق من المقال(لكن من وجهة استدلال أخرى): الدين الذي يُطلب فيه منتهى الإخلاص والمراقبة الذاتية قد جعل الله له حدودا وتعزيرات(حتى في العبادات) يجب أن يقف عليها، حال وجوبها، المسؤول!!!..؛

· إذا حملنا المسؤولية للحاكم فإن المعادلة لها حل، أما إذا حملناها للشعب فإن مجموع الحلول هو المجموعة الفارغة، ما دام يمكن استبدال الحكام وغير ممكن استبدال الشعب..

· تحميل المسؤولية للشعب هو نظرية "اللاحل" و"اللاأفق".. هي نظرية البحث عن "تجذير" المشكل عوض البحث عن إيجاد الحل، لأنه عندما يدان الشعب كله، فالأكيد أنه لم تُترك وسيلة للحل..؛

· تحميل المسؤولية للشعب هو بمثابة استحداث نظرية "اللامسؤولية"، وتمييع وتعويم مفهوم المسؤولية، وتشتيت استحقاقاتها، و"تفريق دمها بين القبائل"،، وهو ما يعني عمليا "حفظ الملف" و"تقييده ضد مجهول"؛

· تحميل المسؤولية للشعب هو تحبيط وتثبيط وتيئيس للشعب، وهو بالمقابل إمداد في عمر الفاعل ومده بإكسير الحياة وحبل النجاة.. وهي خدمة مجانية ومشبوهة للحاكم، يقوم بها البعض عن قصد وباسترزاق،، ويفعل ذلك الآخرون بـ"حسن نية" غير معذورة. وهي في الحقيقة نظرية مخابراتية الأصل، "ارتزاقية" أو "أبلهية" النشر،، لا يستفيد منها إلا النظام!!!..؛

· تحميل المسؤولية للشعب يعني تحميلها لكل المهمشين المستضعفين المقهورين المجهلين المفقرين... بمن فيهم جداتنا اللائي يستحي العاقل من مجرد الإشارة لهن..؛

· لو كان الشعب هو من يتحمل المسؤولية لما ابتكرت الجماعة البشرية نظاما لتفويض قائد متحكم، وأسست مؤسسات مستنزفة لمدخرات الناس.. وما دام الفرد مسؤولا عن سلوكه المجتمعي لن نحتاج منشآت ضبطية،، فلنعزل القائد إذن، ونحل المؤسسات، ونوفر مصاريفها الخيالية ونقتسم نفقاتها الفلكية التي ينهبها "المسؤولون" بذريعة المسؤولية.. بل ونعيد التحقق من مشروعية وجود "الدولة" أصلا إذا كان الشعب مسؤولا عن نفسه..؛

· لو كان الشعب هو من يتحمل المسؤولية لما أنفقت الملايير وجيشت الجيوش العسكرية والقمعية والمخابراتية والإعلامية واللوجستية والمخططة... من أجل الانقلابات وتثبيت الحكام.. وما النموذج المصري(ملتقى مخططات الاستكبار العالمي المسيطر والاستبداد المحلي العميل) إلا مثال مجسد لتكالب أقطاب الحضارات المنافسة المهدَّدة على تثبيت الحاكم الذي يخدم وينفذ أجندتها، وأهم بنودها(إن لم يكن الوحيد) هو تأبيد التخلف والانحطاط.. ولو كان غير ذلك لتُرك الرئيس المنتخب، ما دام الشعب المصري متخلفا خانعا خاضعا تابعا تائها مستسلما، ذلك أنه هو(الشعب) من يتحمل -حسب الزعم- مسؤولية/إمكانية التخلف أو التقدم المفترض..؛

· لو كان الشعب هو من يتحمل المسؤولية لما قامت هذه الحروب الطاحنة من أجل تغيير المناهج التعليمية بين مُوال لهذا التيار أو ذاك، ولما صرفت المليارات من أجل التوجيه الإعلامي عبر استعمال كل منتجات الميديا بدء بالأخبار والتحاليل والتقارير، وصولا إلى برامج الأطفال والرسوم الكرتونية ومسميات الفقرات العلمية، مرورا عبر الوثائقيات والأفلام والإنتاجات الدرامية الماراطونية الساعية إلى السيطرة الناعمة عبر خلق رأي عام محدد وفرض منظومة قيم معينة.. وليس ضروريا التذكير أن الحاكم هو من يملك القدرة على ترسيخ هذه الممارسات المرغوبة، وتوجيه الرأي العام والتحكم في مدخلاته ومخرجاته، عن طريق إعمال آليات المراقبة والمحاسبة وتغيير المناهج التربوية والمحتويات الإعلامية... ولا يملك الشعب أيا من هذه القدرات..؛

يتبع..



سعيد المودني