الوطن والمنظمة الحزبية

للأسف الشديد، لقد صادف انتشار وباء فيروس كورونا المستجد مرحلة سياسية أبرز ما ميزها ويميزها هو الوهن الذي أصاب العمل الحزبي ببلادنا. لقد أصيبت أجهزة هذه المنظمات بوباء، ربما غير معروف أو أن هناك موانع لتشخيصه، عسر سعي المنتمين إليها المعلن للخروج من هوامش التيه والتخبط التي توسعت في ذاتها، وجعلها ترتكن من خلال طبيعة تحركاتها في موقع المقاومة من أجل البقاء. والحالة هاته، والنظام المغربي لا يدخر أدنى جهد لمحاصرة هذا الوباء والقضاء عليه، لا يمكن للمتتبع أن لا يحلم بسيناريو آخر، أكثر قوة بأبعاد تداخلاته، يخفف على النظام حدة الإرهاق في مواجهته لهذا الوباء، من خلال خطة مجتمعية يتكامل فيها دور السلطة (وزارة الداخلية ووزارات السيادة) ودور الوساطة الحزبية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني.

وعليه، أدخلتني أجواء الحجر الصحي، التي يعيشها المغاربة بمشاكلها ومصاعبها ومآسيها، في فضاء التفكير من جديد في المراجعات التي أعتبرها ضرورية لمرحلة ما بعد الكورونا، وهذه المرة من خلال إبراز دور المنظمة الحزبية في تقوية النظام السياسي للمجتمع المغربي.

لا يمكن لأحد أن يجادل أن نقطة انطلاق تشكيل منظمة حزبية هي فكرة صادرة عن فاعل اكتسب شرعية سياسية وفكرية لدى مجموعة من الأشخاص. تكوينها في البداية يكون أساسه تركيز عن جوهر الأفكار، ليليه بعد ذلك تفكير عميق في البناء النظري للمرجعية السياسية (الإيديولوجية). وبعد الانتهاء من هذه المرحلة، التي تكون طويلة شيئا ما نظرا لأهميتها، تتكاثف مجهودات مكونات المجموعة الفاعلة، تحت إشراف قيادة (زعيم مؤسس)، لإقرار تصميم للمنظمة، بحيث لا تدخر الجهود من أجل توفير الوسائل والأدوات الضرورية الضامنة للتنسيق المحكم لتصرفات وأفعال فاعليها، للوصول إلى تحديد القيم المشتركة المرغوبة، التي ستلقى استجابة كبيرة لدى الجماهير (بيئة التصريف الإيديولوجي). بالطبع الامتداد السياسي لهذه المنظمة، الذي يلي إقرار نتائج مؤتمرها التأسيسي، يبقى رهينا بتشكيل المنظومات الترابية القوية (الأفراد وفرق العمل والأجهزة القطاعية المسؤولة) التي يجب أن تعمل باستمرار بصورة متناسقة ومتعاونة، بتواصل تام مع القيادة، من أجل تحقيق أهدافها. بالطبع الجهد المبذول في مرحلة التأسيس بحصيلته يشكل الثروة الفكرية المرجعية الضامنة لبقاء وتطور المنظمة، والرفع من قيمة أعمالها وأنشطتها باستمرار، وتحقيقها لأعلى مستويات القوة والنفوذ السياسيين، ثروة تتضمن المعارف المطلوبة لعقلنة تكثيف استخدام الموارد (المالية والمادية والمعلوماتية والبشرية والتكنولوجية)، واستغلال الفرص، وتحديد طرق ومناهج العمل. إنه مسار تأسيسي نضالي بنظرة استباقية لا يحتمل التراخي أو الانزلاق، لكون هدفه الأسمى هو الوصول إلى إشباع حاجيات المواطنين والحرص الدائم على الاستجابة لمستوى التحولات الخاصة بها وبالوطن، المرتبطة بدورها بقوة تطور المجتمع باستمرار.

لقد أكدت التجارب أن تشبث المنظمة الحزبية بالجانب المعرفي، والتركيز على المهارات والقدرات البشرية في تدبيرها لعلاقاتها السياسية العامة والخاصة، واعتمادها على آليات ناجعة للرقابة، ذات الاتجاهات والأبعاد المتعددة، وعلى تقنيات التفاوض مع ذوي المصالح، المرتبطين بوجودها وبقيادتها، يمكنها دائما من تقديم منتوجات سياسية ذات قيمة مؤثرة إيجابيا على الجماهير (توسيع قاعدة العاطفين والمتعاطفين والزيادة في حجمها وحجوم روافدها الترابية)، والترويج بإتقان وفعالية لقدراتها الإنتاجية، وكسب ثقة المنافسين. كما أن تحقيق التراكمات بمنطق البناء يتحول، باستحقاق، مع مرور الشهور والسنوات، إلى ركن من الأركان القوية للنظام السياسي الحاكم. وبذلك تبقى قوة المنظمات الحزبية وقوة النظام السياسي مرتبطتين إلى حد بعيد بمستويات مردودية السياسات العمومية. كما أن شرعيتهما لا يمكن أن تقتات إلا من غذائها الطبيعي المعروف، والذي يتجلى في جودة الخدمات السياسية، وقدرتهما على تنمية العمل التشاركي، ومنع احتكار الموارد واستثمارها، والاحتكام الدائم إلى منطق خلق دولة الرفاهية بعلاقات دولية وطيدة (تعظيم القيمة والروح الريادية للدولة والمنظمات الحزبية والمجتمع معا).

في نفس الوقت، وجود نزاعات قاتلة في التواصل بين الأجهزة القيادية لمنظمة حزبية معينة، المتسلسلة ترابيا، لا يمكن تقبله كذريعة لتبرير الفشل والهوان والضعف. فالمنظمة الحزبية لا تضمن الحيوية والقوة إلا من خلال مضاعفة مردودية مواردها البشرية حتي في حالة نشوب النزاعات. أقول هذا، لأن السياسة لا تحتمل الفراغ. إن المورد البشري لا يمكن أن يكون فاعلا ذا مردودية عالية، وبالتالي إثبات أحقية تمتيعه بهذه الصفة، إلا في حالة التعبير بوضوح تام عن عزيمته للعمل المتواصل من خلال إسهامه في خلق واستغلال الفضاءات الممكنة التي ستجنبه آفة جمود قدراته أو تجميد طاقته ومقومات وجوده. فالمناضل الحزبي، المتشبث بالأفكار المؤسسة لمنظمته، والتطورات التي لحقت بها نتيجة التحولات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية الظرفية، لا يمكن اعتباره مساهما في تنمية الديمقراطية في بلاده إلا من خلال تعبيره الواضح والملموس عن قدرة هائلة في التكيف مع الأوضاع الصعبة، قدرة تجعل الأداء السياسي والثقافي والفكري لمنظمته حيا ومتراكما ولو خارج أجهزتها الكلاسيكية، من خلال السعي المستمر لخلق فضاءات محفزة لمساهمات المفكرين، وخلق مراكز البحوث والاستشارات المتخصصة في مختلف القطاعات والمجالات والشعب العلمية والفكرية.

إن الابتعاد أو العزلة أو الحجر الذاتي السياسي لا يمكن مقارنته مع الحجر الصحي، لأن الأول مرادف للاستسلام القاتل المؤدي، عن إصرار وترصد، إلى إضعاف المردودية والحياة وقوة الفعل النافعة للوطن والمجتمع على السواء، أما الثاني، فالغرض منه، كقرار وطني بنفحاته، حماية المجتمع لإخراجه من محنة مقاومة الوباء أكثر قوة وعزيمة. إن مبادرات خلق النظم الموازية القوية والحية والمنفتحة في مجالات الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري وتعددها، تحمل في طياتها مقومات النجاح ومصدر جاذبية قوية للمواطنين (بمفاهيمها، مبادئها، منطقها، ....)، وفضاءات لتفجير الطاقات الفردية والجماعية الأكثر استيعابا للموارد البشرية الحزبية وغير الحزبية . فبهذا السلوك أو الأسلوب، لا يمكن للفاعل إلا أن يكتسب التراكمات في تكوينه وتأهيله، وبالتالي الرفع من مستوى تأثيره في تغيير موازين القوى داخل كل منظمة حزبية على حدة. كما أن تجميع القوى بمنطق التكامل والتناغم وتوزيع الأدوار البناءة (التفويض) لا يمكن تصنيفه إلا في خانة الإبداع والاجتهاد الجماعي الميسر لاكتساب القدرة الفردية والجماعية على خلق التحولات الضرورية بشكل مستمر في تصاميم المنظمات الحزبية، وحتى في آليات إنتاجها للمفاهيم الجديدة، وطرح الفرضيات ذات الوزن الثقيل. إنه السبيل الذي يمكن المناضل من الابتعاد من عقدة "قتل الزعيم" كاستراتيجيه ليحل محلها تقويته بمنطق متميز آخر يجعل من الحراك الداخلي الحزبي حراكا نافعا ومنتجا، حراك بطبيعة ديناميكية قادرة على ضبط سلط أصحاب المصالح المباشرين وغير المباشرين، ودوافع فعلهم وتحركاتهم الظاهرة والباطنة، وكذا تعددهم، وبالتالي التحكم، بالموضوعية اللازمة، في مستويات ضغوطاتهم على وجود المنظمة وآفاقها المستقبلية (ضمان المساواة والاستحقاق الداخلي المنتصر للكفاءة والمسؤولية المحققين للأهداف والنتائج المسطرة الخاصة بكل مرحلة).

إن الإكثار من خلق التكتلات الفكرية المستقلة (بدون أن تلغي الانتماء السياسي)، التي تنبثق من خلاله حقول عديدة للدراسات النظرية والعلمية والمعرفية والعملية، هو مرادف للوعي الحقيقي بنبل العمل السياسي، وعي يترتب عنه على أرض الواقع، مهما كانت العراقيل وردود الفعل الرامية إلى إفراغ المبادرات الجادة من مضمونها، توسيع مساحة الوعي القيمي والأخلاقي بمقاصده وأهدافه، توسيع يقوي بالموازاة التفكير والإدراك والثقة والولاء والالتزام والإخلاص في القواسم الإيديولوجية المشتركة بأبعاد قيم التأسيس، وبتحديات الاستجابة الفورية للتطورات والمستجدات.

 

الحسين بوخرطة