لا شك أن الجائحة الوبائية لكورونا قد أحدثت تحولات عميقة في المجتمع الإنساني على صعيد الوعي، والعلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الدول، وعززت الإنتاج المتصل بالمعارف المفتوحة، وأيقظت ما صار يعرف بـ"الذكاء الجماعي"، وغيرت كثيرا من المعادلات، خاصة ما يتعلق بأولويات الإنفاق، ونظرة المجتمع إلى العلم، والتي طرأ عليها تحول نوعي، بعد أن كانت هذه العلاقة تتسم بالغموض والتعقيد، في اتجاه توظيف خبرات العلماء في إثراء النقاش العام بغية الاستجابة لمختلف التحديات الراهنة وتلبية حاجات المجتمع، دون أن يفقد البحث العلمي زخمه ودون التفريط في شروط الصرامة العلمية.

إن الرهان الأعظم الذي صارت تواجهه الإنسانية اليوم هو أن يتحرك العلماء مع صناع القرار وفعاليات المجتمع المدني من أجل اتباع سياسة علمية رشيدة ومنهج علمي يضع ضمن أولوياته حرية الوصول إلى المعرفة، ووضع إطار إستراتيجي لما صار يعرف اليوم بـ"العلوم المفتوحة"، بغية إدماجها في إجراءات وتدابير البحث الرصين.

وإذا كان النهوض بالبحث العلمي من مسؤوليات الجامعات التي ينبغي أن تضطلع بإنتاج المعرفة ونشرها على نطاق واسع في ظل التحولات الكبرى للمجتمع البشري، وأن تعي الدور المنوط بها في الاستجابة لهذا الإطار الإستراتيجي، فإن من مسؤوليات المؤسسات التي تضطلع بالسياسات العلمية والتكنولوجية أن تعمل جاهدة على توسيع نطاق المعرفة العلمية وتعميقها، وأن تحدد آفاق التقويم المرتبطة بالأنشطة العلمية.

وفي هذا السياق ألم يَئن لنا في المغرب أن نفكر في إنشاء مجلس أعلى للعلوم والتكنولوجيا، يضم كل المعاهد والمراكز التي تعنى بالشأن العلمي، ويكون من مهامه إمداد صناع القرار بالمعلومات اللازمة في هذا المجال، وتقديم الدراسات المعمقة حول أهم القضايا والمشكلات المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا، إلى جانب وضع التوجهات الكبرى لهذين الميدانين، ومراقبة الاختيارات المرتبطة بالسياسة العلمية للحكومة، خاصة ما يتعلق بتوقعات الظرفية العلمية، وتحليل أهم معالمها، وتنظيم جهود العلماء بشكل متناسق، وتجنب التكرار، والمساهمة في الجهد العلمي الضروري في مثل هذه الأزمات الصحية.

وستكون من مهام هذا المجلس أيضا إشاعة روح البحث العلمي، ودراسة مدى مساهمة الإنتاج المشترك بين الباحثين الجامعيين وغير الجامعيين في تطوير الممارسة المرتبطة بالسياسات العلمية.. يضاف إلى ذلك تعزيز التعاون بين الباحثين المغاربة ومؤسسات البحث العلمي ومعاهده في مختلف بقاع العالم، وتنمية القدرات العلمية والتكنولوجية، في أفق تحقيق غايات التنمية الشاملة والمستدامة، وتوسيع مجالات استعمال التكنولوجيا وتوطينها، من أجل دعم وتعزيز ما صار يعرف اليوم بـ"اقتصاد المعرفة".

إن حركية المجتمع المغربي وفاعليته، وما أفرزته أزمة كورونا من علامات فارقة، تجعلنا نؤكد اليوم أن إنشاء هذا المجلس يمكن أن يؤدي دورا مهما في تطوير مشاريع البحث (خاصة إذا كانت جماعية)، والاستفادة من الخبرات الإنسانية، ومواجهة التحديات المعاصرة، بغية تحقيق ما تنشده بلادنا من نهضة وانبعاث حضاري، شعاره: استغلال الطاقات العلمية المحلية وعدم إهدارها.

شوقي المقري