من أوبئة مغرب القرن التاسع عشر التي دخلت البلاد عبر مراسي شمالها، نجد طاعون 1818-1820 الذي كان أقل رهبة وتدميرا ونزيفاً مقارنة بطاعون 1799-1800 رغم أنه عمر لفترة أطول من الأول. وتسجل الأبحاث أن وباء فترة نهاية عشرينات القرن التاسع عشر هذا انحصر في بدايته بشمال البلاد وشرقها مخلفاً حوالي ألفي ضحية بطنجة لوحدها خلال سنة 1818، إلى درجة الحديث على أنه أتى خلال مدة تفشيه على خمس ساكنة هذه المدينة.

وغير بعيد عن طنجة وبالشمال دائما، بلغ عدد وفيات مدينة تطوان بسببه حوالي عشرين حالة يومياً. ليبلغ الوباء ذروته في ربيع 1919، بحيث خلال مارس من هذه السنة قدر عدد الوفيات بالمئات. وضع رهيب جعل وكيل الصحة البريطاني بطنجة يقول بعد انتقال الوباء إلى داخل البلاد إن الناس بفاس كانوا منهمكين في دفن موتاهم من طلوع الشمس إلى غروبها.

وفي هذا الإطار، ورد أن هذه المدينة كانت تفقد خلال أبريل من السنة نفسها حوالي أربعمائة ضحية يومياً، وأن الوباء لم يظهر بجنوب أبي رقراق على مستوى غرب البلاد إلا في نهاية هذه السنة، قبل يصل مراكش التي بلغ عدد وفياتها خلال فبراير 1820 حوالي المائتين يومياً، ليرتفع في شهر أبريل إلى حوالي تسعمائة قتيل، مسجلاً بذلك رقماً قياسياً.

وبما أن الوفيات تنشط بسبب المجاعة وتتواصل نتيجة أوبئة تنقض على الناس بعد إصابتهم بالهزال، كما جاء عند "لوكًوف"، فإن ما طبع طاعون 1818-1820 كونه جاء بعد جفاف لسنتين جعل وضع البلاد الاجتماعي والاقتصادي أكثر حدة، بخلاف طاعون 1799-1800 الذي لم يصحبه خصاص في الأقوات ولم يفقد فيه المخزن موارد جبايته. وبقدر ما كان من آثار مادية ونفسية معبرة ووقع لطاعون 1820 على مخزن مولاي سليمان، بقدر ما نظر الناس إلى ما أصاب البلاد من وباء معتبرين إياه عقاباً إلهياً.

وكان تسرب الوباء إلى المغرب هذه المرة انطلاقاً من الشمال، إثر قدوم ولدي مولاي سليمان من الحج ونزولهما بطنجة عبر مركب حملهما رفقة حجاج وتجار من الاسكندرية، بحيث تفشى الوباء في طنجة 1818 رغم كل جهود الوقاية قبل انتقاله إلى فاس ومكناس وباقي جهات البلاد.

وحول ظهور الوباء بطنجة، أورد صاحب "الجيش العرمرم": "في هذا العام قدم ولدا السلطان (مولاي سليمان) من حجهما ونزلا بمرسى طنجة، وكان السلطان وجه لهما مركباً من مراكب الانجليز يحملهما من الاسكندرية مع كل ما تعلق بهما من أصحابهما وخدامهما والتجار الموجهين معهما. ولما نزلا بطنجة ظهر الوباء مصحوبا مع من معهما، ثم شاع في المغرب خصوصا تلك السواحل ثم في جميع الحواضر والبوادي إلى آخر أربعة وثلاثين ومائتين وألف".

أما صاحب "الاستقصا" فقد أورد حول تفشي الوباء بالبلاد قائلا: "ولما نزلوا بطنجة (يقصد ولدي المولى سليمان)، حدث الوباء ومنها شاع في الحواضر والبوادي إلى أن بلغ فاساً ومكناسة في بقية العام. ولما دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف شاع الوباء وكثر في بلاد الغرب، ثم زاد الأمر وتفاحش حتى أصاب الناس منه أمر عظيم".

وحول ما كانت عليه هذه الفترة من تدابير وقاية، من المفيد الوقوف على موقع بذاكرة رمزية هامة ذات صلة، يتعلق الأمر بجزيرة مقابلة لمدينة الصويرة عرفت بجزيرة الحجر الصحي زمن أوبئة القرن التاسع عشر. جزيرة بحسب ما تذكره الرواية كانت تحتوي منذ فترة السلطان محمد بن عبد الله على مدافع تمت إزالتها من قِبل الفرنسيين سنة 1844 لَمَّا أجبرت القوى الأوروبية المغرب وألزمته بإخضاع حجاجه العائدين للحجر الصحي.

هكذا تحولت الجزيرة إلى مكان حجر صحي كان ينزل فيه حجاج عائدون من مكة، فعندما كانت لا تسجل أية حالة وفاة على متن سفينتهم أثناء العبور ولا أية حالة وباء، فقد كان يسمح للسفينة بالرسو على البر ونزولهم واستقبالهم من قبل ذويهم مع ما كان يحصل من حفل وغناء، وإذا حصل تسجيل ضرر بسبب وباء ما على متن السفينة، فقد كان الحجاج يخضعون لحجر صحي بهذه الجزيرة لمدة أسبوعين.

إن الحديث عن أوبئة مغرب القرن التاسع عشر، كما وباء 1818-1828، استحضار لمحطات هامة من زمن بلادنا الاجتماعي وذاكرتنا، وما الأوبئة وغيرها مما ضرب البلاد من آفات عبر دورات سوى قضايا ظلت مغمورة لفترة طويلة، علما أنها من مكونات زمننا المهمة والمحورية لفهم ماضينا.

ولعل ورش تاريخنا الاجتماعي ما يزال لم يحظ بعد بما ينبغي من التفات وإنصات علمي رزين، من شأنه توسيع التراكم في هذا المجال وجعل الخزانة التاريخية المغربية بما يكفي من النصوص؛ بحيث تبقى الأعمال العلمية التاريخية في هذا الإطار محسوبة على رؤوس الأصابع، وفي مقدمتها ما أسهم به محمد الأمين البزاز والحسين بولقطيب رحمهما الله، مع أعمال كل من تريكي وبوجمعة رويان أيضاً.

وإلى جانب قضايا عامة من تاريخ أزماتنا الاجتماعية كما بالنسبة للأوبئة وما أصاب بلادنا من كوارث وآفات وفق دورات على امتداد قرون، من المهم انفتاح شبابنا الباحث والمؤرخ على تاريخ القرب لرصد ظواهر اجتماعية كانت بأثر شديد على البلاد والعباد، لِما خلفته هنا وهناك من المجال المغربي بالمدن والبوادي من نزيف بشري وخراب وآثار نفسية وسلوكات وردود فعل لا نعرف عنها إلا نتفا وإشارات.

ولجعل ورش القرب في البحث حقيقة ومن خلاله بلوغ رهان تاريخ البلاد الشامل على مستوى عدد من القضايا والمحاور، لا بد من تثمين عمل البحث العلمي التاريخي المحلي في سياقه المنوغرافي، وحفز جميع ما من شأنه من الأعمال بلوغ قيمة مضافة عبر بحث ودراسة وتنقيب وتوثيق وتحليل، وكما جاء عند "ميشيل فوكو" في مؤلفه التاريخ والمؤرخون ليس هناك تاريخ إلا التاريخ الإقليمي.

يبقى ختاما أن ما حصل من تجديد لتاريخ الأوبئة من قِبل باحثين ومؤرخين لا شك أن الفضل فيه يعود إلى الحوليات الفرنسية من خلال أعمالها واسهاماتها العلمية، وكذا للديمغرافيا التاريخية من خلال نتائجها سنوات خمسينات وستينات القرن الماضي، فضلاً عما حصل حول الأوبئة من علاقة بالانتروبولوجيا التاريخية، وبخاصة ما نشره ميشيل فوكو.

ويبقى أيضاً أن انفتاح الباحثين على الزمن الاجتماعي بات أمرأ هاما من خلال تناول قضايا اجتماعية ومقاربتها من زوايا مختلفة، ولعل لكل هذا وذاك علاقة بالديمغرافيا التاريخية التي بقدر ما فتحت باب معطيات كمية بشرية لفائدة مؤرخين، بقدر ما سمحت بوصف هياكل ديمغرافية ضمن جماعات، وكذا التعرف على ردود فعل تجاه أوضاع وسلوكيات خفية، جعلت منها أداة ضرورية لمعرفة ما ينعت بالنفسية التاريخية.

في علاقة بموضوع الأوبئة كما بالنسبة لِما أوردناه بمختصر مفيد في المقال تنويرا لقراء ومهتمين، يمكن القول إن الحوليات الفرنسية كان لها دور في الدفع بهذا الاتجاه وبروز تاريخ اجتماعي ومن خلاله تاريخ أوبئة قبل نصف قرن، لِما أقدم عليه مؤسسوها من نقاشات شملت تخصصات مجاورة عدة في أفق توحيد العلوم الإنسانية.

فبإشراكهم في ورشهم التاريخي لمتخصصين في توجهات معرفية جمعت بين جغرافيا وسسيولوجيا واقتصاد وسياسة، كانوا وراء ما حصل من قطيعة مع مدارس تاريخية اختفى على إثرها تاريخ تقليدي قام على نخب اجتماعية ووقائع ومؤسسات، ليبرز في المقابل تاريخ اجتماعي اهتم بكتل وهوامش، ومن ثمة ما حصل من دراسة لأحوال اجتماعية كما بالنسبة للأوبئة والمجاعات ولغيرها من كوارث وآفات.