بدأت أعداد كبيرة من السودانيين تستجيب لمبادرة شعبية لا تخلو من معاني رمزية وسياسية مهمة أطلقها رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك أخيرا لدعم برامج حكومته الاقتصادية ومواجهة فايروس كورونا المستجد، وصد محاولات فلول النظام السابق لإرباكه، وتأكيد انسجام السلطة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري.

وأطلق حمدوك مبادرة بعنوان “القومة للسودان-الحملة الشعبية للبناء والتعمير” مساء الخميس، كدعوة إلى التبرع ومساعدته في الحد من الصعوبات.

وتأتي هذه المبادرة مع نفى الجيش السوداني، الأحد، ما تداولته بعض وسائل الإعلام حول وجود تحركات لتنفيذ انقلاب عسكري مع حلول الذكرى الأولى للاعتصام في محيط مقرّ القيادة العامة بالخرطوم في 6 أبريل من العام الماضي.

وقال المتحدث باسم القوات المسلحة السودانية، العميد ركن عامر محمد الحسن، “لا توجد إرهاصات انقلاب، ولا توجد اعتقالات، والقوات المسلحة تعمل بشكل طبيعي”.

وأضاف “كل القوات ترتّب حاليا أوضاعها للمساهمة بشكل فعّال في مكافحة وباء كورونا”.

وبدأ الاعتصام الذي أطاح بالنظام السابق أمام مقرّ قيادة الجيش بالخرطوم، في 6 أبريل 2019 للمطالبة بعزل البشير؛ ثم استكمل للضغط على المجلس العسكري (المنحلّ)، لتسريع عملية تسليم السلطة إلى مدنيين.

وفي 21 أغسطس 2019، بدأ السودان مرحلة انتقالية تستمر 39 شهرا وتنتهي بإجراء انتخابات.

حملة البناء والتعمير 

تهدف المبادرة التي أطلقها حمدوك بعنوان “القومة للسودان-الحملة الشعبية للبناء والتعمير” مساء الخميس، إلى زيادة الالتفاف الشعبي حول الحكومة التي تعرّضت لانتقادات عدة الأيام الماضية لعدم قدرتها على تحقيق تقدّم ملموس في القضايا التي أولتها رعاية، مثل تفعيل دور لجنة إزالة التمكين، والتوصّل إلى سلام شامل.

وأكدت لنا مصادر سودانية، أن القيمة المادية للمبادرة محدودة لأن التبرعات مهما ارتفعت لن توقف التدهور الاقتصادي سريعا، غير أن مضامينها السياسية يمكن أن تمثّل طوق إنقاذ لتحالف قوى الحرية والتغيير، الذي يمثّل الظهير الشعبي للحكومة بعد حدوث خلافات داخله أصبحت تهدد تماسكه.

وأضافت أن المبادرة استفادت من الظروف العامة وتضخّم جائحة كورونا لترميم العلاقات بين الأحزاب والقوى السياسية التي أيّدت الثورة ضد نظام الرئيس عمر حسن البشير، وتريد توظيف الانشغال بهذه الأزمة في تأكيد قدرة الحكومة على التعامل مع التداعيات المؤلمة.

وقال عضو المجلس المركزي لتحالف قوى الحرية والتغيير، صديق يوسف، لـ”العرب”، إن الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه، سيتقدم بمقترح لتعديل المبادرة لتكون الأموال الموضوعة بمثابة سندات ادخار يكون للمساهم الحق في استرجاعها بعد فترة زمنية محددة، 10 سنوات مثلا، لحين تحسّن الأوضاع، ومن شأن ذلك إضفاء فاعلية على الحملة لتحقيق أهدافها الاقتصادية.

وكشف أن الحملة تستهدف الحصول على دعم سياسي للحكومة في مواجهة ممارسات النظام البائد التي تلعب على وتر تململ المواطنين وخلق أزمات مالية وسط أجواء عالمية قاتمة.

وكانت الحكومة الانتقالية تعوّل على عقد مؤتمر اقتصادي كبير بالخرطوم للدول المانحة قبل نهاية مارس الماضي لجذب استثمارات وتعويض جزء من الخسائر الاقتصادية، وجاء تأجيله إلى يونيو المقبل وربما بعد ذلك، ضربة قاصمة لجهودها وفقدان للأمل نتيجة للظروف التي فرضها كورونا والكساد المتوقع بدول عديدة، ما يعرقل الحصول على مساهمات من المانحين.

قبول شعبي 

قوبلت المبادرة بترحيب قطاعات مختلفة من المواطنين داخل وخارج البلاد، وتفاعلوا معها معنويا لتأكيد التمسك بهويتهم الوطنية، لكن فلول النظام السابق قلّلت منها، واعتبرتها مثل دعاية أو “شو إعلامي” غرضه دغدغة مشاعر الناس، ومحاولة لإيجاد أرضية مشتركة قبل انهيار الحكومة الانتقالية التي تواجه إخفاقات متباينة.

ووصف رجل الدين المتطرف عبدالحي يوسف، القريب من جماعة الإخوان بالسودان، حكومة حمدوك بعد إعلان الدعوة للتبرع بأنها “حكومة السفهاء”، وهو ما رد عليه السكرتير
الصحافي للحكومة، البراق النذير، الجمعة، بالأسف لما وصفه بـ”المستشيخ عبدالحي الذي هو لا حي ولا حييّ.. يحسن تنشئة الصغار على التطرف والعنف والتجهيل”.

وتعاني الحكومة الانتقالية من تدهور اقتصادي، واتساع في نطاق الفساد الذي لحق بكثير من مؤسسات الدولة ورثه حمدوك من نظام الرئيس المعزول، ويعوّل الرجل على رفع اسم السودان مع على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب كي تتمكّن من تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية المتراكمة من عهد البشير، لكن كورونا أرخى بظلاله السلبية على هذا الملف.

وتقع مسؤولية الأزمة المادية وفقا لخطاب الحكومة المتكرر، على “الإرث الكالح من الفساد، وسوء الإدارة والتبديد والإهدار لموارد الدولة.. وآثار العزلة الاقتصادية عن العالم”.

وشدّد حمدوك عند طرح مبادرته على أهمية التماسك والتآزر الذي يشهده السودان في مواجهة كورونا، واعتبرها نقطة انطلاق لتجاوز المرحلة الصعبة، قائلا “لن نكذب على الشعب ونقول إننا لا نواجه تحديات جسيمة، فمنذ أن أدينا القسم كحكومة واجهتنا قائمة طويلة من المشكلات والعقبات التي عقدنا العزم على التغلّب عليها”.

ولفت إلى أن دعوته جاءت استلهاماً للجهود والمبادرات الشعبية لإشراك كل سوداني وسودانية داخل وخارج البلاد في إنقاذ السودان من الأزمة وإعادة البناء.

وشدّد صديق يوسف في تصريح لـ”العرب”، على أن الشعب السوداني وجّه صفعة لأنصار النظام البائد بعد أن تجاوب بشكل واسع دعوة حمدوك، بما يشي أن هناك ظهيرا شعبيا خلفه يدعم خطواته الإصلاحية، ويسارع من وتيرة الإجراءات المتعلقة باسترداد الأموال المنهوبة، دون النظر إلى أيّ حسابات سياسية قد تؤدّي إلى بطء عمل لجنة إزالة التمكين. 

وأوضح أن نجاح المبادرة يرتبط بمساهمة أبناء السودان في الخارج الذين أضحت لديهم ارتباطات أكبر ببلدهم منذ الإطاحة بنظام البشير، فقد فتحت السلطة الجديدة الباب أمام العديد منهم للمشاركة في عملية الإصلاح، عبر توليهم مناصب رسمية أو الاستفادة من خبراتهم، كما أن التعّويل سيكون أكبر على العُملة الصعبة التي سوف يتبرّع بها هؤلاء للمبادرة.

وتراهن الحكومة على زيادة التكاتف الشعبي حولها من هذا الباب للتدليل على أنها محلّ تقدير من المواطنين، وقادرة على الصمود في وجه الغبار الذي يحاول أنصار النظام البائد إثارته في وجهها لعرقلة مساعيها نحو الوصول إلى درجة عالية من الأمن والاستقرار.

وتعود المبادرة الشعبية إلى دعوة أطلقتها قوى الحرية والتغيير مبكرا ووجدت استجابة من الحكومة، كخطوة لحشد الموارد والاعتماد على الذات وتعويض نقص المنح والقروض، والتهميد لاتخاذ خطوات كبيرة لاسترداد الأموال المنهوبة من شلة المنتفعين خلال حكم البشير.

يظل التوسّع في ملف استرداد الأموال من حزب المؤتمر الوطني المنحلّ وقيادات النظام السابق والحركة الإسلامية في السودان من القضايا الشائكة، فالتقدم الذي أحرزته الحكومة لا يزال محدودا، وبحاجة إلى تحركات أشد حسما، توصل رسالة للمواطنين تؤكد أنها جادة في هذا الطريق، ولن تتوانى عن تقويض أركان نظام البشير.

ويحتاج حمدوك إلى تجديد الغطاء الشعبي المدني لأن الأيام المقبلة قد تشهد فيها البلاد توترات، على خلفية رغبة فلول نظام البشير توظيف الارتباك الذي سبّبه فايروس كورونا في دولاب السلطة الانتقالية وترتيب الكثير من الأولويات المحلية والإقليمية والدولية.