كان من نتائج تحول النظام العالمي من قطبية ثنائية إلى قطبية أحادية، نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي وباقي الأنظمة الاشتراكية بأوروبا الشرقية منذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين، بروز نظام العولمة الذي سيطرت فيه القوى الاقتصادية الكبرى بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي برزت كقوة اقتصادية عالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مما فتح المجال العالمي على مصراعيه أمام تنقل الأشخاص والأفكار والمنتجات بمختلف أنواعها، وأصبح عبارة عن قرية صغيرة تعمه كل القيم الجديدة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي. لكن ما لم يكن في الحسبان، هو أن تعمم في ظل النظام الحالي الأمراض والفيروسات. ويعد فيروس "كورونا" من الفيروسات الفتاكة، الذي ظهر في البداية بالصين ثم انتقل إلى باقي دول العالم، أي تمت عولمته وتدويله، بحيث لم تسلم أي دولة من دول العالم من أذاه، مخلفا ذعرا وخوفا كبيرين لدى الدول والمجتمع الدولي. مما دفع بدول العالم إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والخطوات الاحترازية المختلفة لتفادي تفشيه وإلحاق خسائر مادية وبشرية كبيرة. لكن ما الحقيقة التي يخفيها فيروس "كوفيد19" على المستوى السياسي والاقتصادي؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة بعد إلقاء سلاح فيروس كورونا عل المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية؟

أولا: نظام العولمة والهيمنة الغربية

مع بداية التسعينات من ق 20، دخل العالم مرحلة جديدة من العلاقات الدولية، حيث انتقل من نظام ذي قطبية ثنائية إلى نظام ذي قطبية أحادية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ذات النظام الرأسمالي بعد انهيار المعسكر الشرقي. وقد كان هذا الوضع الدولي الجديد من بين أبرز العوامل التي ساهمت في ظهور العولمة كظاهرة اقتصادية جديدة، والتي ارتبط ظهورها بالثورة العلمية والمعلوماتية الجديدة، التي ساهمت بشكل كبير في الاندماج العالمي، وسمحت بحرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال والسلع والمعلومات والخدمات. وتتجلى العولمة في التداخل الكبير الذي وقع في العلاقات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بين الدول، إلى درجة أصبح من الصعب معه أن تمارس الدول نوعا من التحكم في حدودها وفي علاقاتها الدولية لا يهمنا في هذه المقالة العودة إلى تاريخ نشأة العولمة وتطورها عبر الزمن حتى استقرت على حالها المعلوم، بقدر ما يهمنا التركيز على أن القوى الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الوضعية الاقتصادية الجديدة، أحكمت قبضتها على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ومما يدل على ذلك، تدخل و.م.ا في العديد من القضايا الدولية، في مقدمتها على سبيل المثال لا الحصر، التدخل في العراق والقضاء على نظام الرئيس العراقي صدام حسين، الذي كانت تهدف من ورائه أمريكا القضاء على كل الأنظمة المعارضة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لحماية مصالحها الاقتصادية بالمنطقة. كما لجأت و.م.ا إلى نهج أسلوب الإرهاب الاقتصادي ضد العديد من الدول، عبر فرض الحصار الاقتصادي الذي طغى على أسلوبها ومنهجيتها في تدبير القضايا الدولية، في مقدمتها دولة إيران منذ سنة 1979م، تلتها مجموعة من محطات الحصار الاقتصادي، كان آخرها ما أعلنته أمريكا من تشديد العقوبات على إيران في ظل تفشي جائحة كورونا، ويبدو أن الصراع النووي قد خيم على العلاقات الأمريكية الإيرانية، حيث ظلت أمريكا دائما تسعى لإضعاف إيران، للحد من تطورها النووي الذي أصبح يزاحم الدولة الأمريكية، وبالتالي منافستها في امتلاك هذا النوع من السلاح النووي.

كل هذه التحركات رفعت من منسوب السيطرة الأمريكية على العالم، ومما زاد من استقواء الدولة الأمريكية على العالم، هو خلق عدو للعالم "الإرهاب" بعد أحداث 2001، وأصبح بإمكان و.م.أ أن تضرب كل من سولت له نفسه المساس بمصالح أمركا وإسرائيل في أي منطقة من مناطق العالم. ولم يتأت لها ذلك، إلا بسيطرتها على منظمة عالمية مهترئة وغير منصفة هي منظمة الأمم المتحدة، التي من مهامها الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، حيث تعد أمريكا من بين الدول الخمس الكبرى التي تمتلك حق "الفيتو" إلى جانب عدد كاف من حلفائها، إلى جانب تحكمها في العديد من المنظمات الدولية الأخرى ذات الطابع العسكري والاقتصادي، وبالتالي أصبح بإمكان و.م.ا تمرير أي مخطط يخدم مصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية بالعالم.

ومما يبرز الهيمنة الأمريكية على المستوى الاقتصادي، سيطرتها على نسبة مهمة من التجارة العالمية التي بلغت 19٪ من حجم التجارة العالمية، بقيمة تفوق 2500 مليار دولار إلى حدود 2010، وهو شيء طبيعي بالنظر إلى قوة الاقتصاد الأمريكي، الذي يهيمن على أهم الشركات الكبرى العابرة للقارات، إضافة إلى استثماراتها الكبرى المنبثة في مناطق عديدة من المجال العالمي.

وبالمقابل لم يكن أمام أمم أوروبا، لمواجهة هذه الهيمنة الأمريكية وتراجع مكانتها، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سوى التفكير في خلق وحدة أوروبية، التي لقيت تشجيعا لا متناهيا من طرف الأمريكان، حتى بعد بروز أمريكا كقوة عالمية مهيمنة، وذلك من أجل خلق شريك اقتصادي كبير ذي نزعة ليبرالية رأسمالية. ويعتبر مشروع "مارشال" الأمريكي لسنة 1947 أبرز مثال على ذلك، حيث قدمت و.م.ا دعما كبيرا اقتصاديا وماليا وعسكريا للدول الأوروبية الرأسمالية، ولو أنه جاء في سياق تاريخي معين تميز بالمد الشيوعي الصيني السوفياتي في آسيا وأوروبا الشرقية. لتشرع الدول الأوروبية منذ سنة 1950م في التهييئ لخلق تكتل اقتصادي توج بإرساء وحدة اقتصادية سنة 1957. ومنذئذ توالت سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات توجت بمعاهدة ماستريخت سنة 1992 وإنشاء الاتحاد الأوروبي. ويمكن تفسير ذلك بوعي أمم أوروبا، بأنه لا توجد أي قوة أوروبية بإمكانها أن تقف ندا لثروة وساكنة وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك ففكرة الكيان الواحد كانت الهدف منذ البداية. حيث كان العمق الحقيقي للمشروع الأوروبي هو خلق ثقل موازن للقوة والهيمنة الأمريكية. وبالفعل أصبح الاتحاد الأوروبي من أبرز التكتلات الاقتصادية العالمية، حيث تطورت حصة الاتحاد من 15٪ سنة 1957 إلى 31٪ سنة 2004 من الناتج الوطني الخام العالمي.

بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الإشارة، إلى أن هناك بعض القوى الاقتصادية الأخرى، التي تسيطر بدورها وبنسب متفاوتة من حصة الناتج الوطني الخام العالمي، خاصة منها الآسيوية كاليابان والهند والصين.... فماذا كانت النتيجة؟

لقد خلقت هذه الوضعية عالما متفاوتا على جميع المستويات، بين قوى الشمال القليلة التي تمثل سوى 20٪ من ساكنة العالم تسيطر على أكثر من 80٪ من الخيرات المتدفقة بالمجال العالمي، مقابل حرمان شعوب دول الجنوب التي تتعدى ساكنتها 80٪ من ساكنة العالم لا تتحكم إلا في أقل من 20٪ من موارد وخيرات العالم. إنها العولمة المتوحشة التي تتحكم فيها القوى الكبرى في كل منافذ الحياة، وتلتهم خيرات المجال العالمي، دون مراعاة الجانب الإنساني وحق باقي الشعوب في الاستفادة من خيرات العالم، هذا العالم المفلس الذي يرتفع فيه الدين القومي العالمي بشكل كبير بالمقارنة مع الناتج القومي العالمي.

لكن هل يستقيم الحديث عن الهيمنة الأمريكية على المستوى الاقتصادي بالخصوص إلى حدود ظهور أزمة فايروس كورونا؟

يجوز القول، إنه في السنوات الأخيرة، أي قبيل انفجار أزمة كورونا فايروس، فقدت القوة الأمريكية سلطتها تدريجيا كقوة عالمية مهيمنة، فالقيادة الأمريكية في مجال الصناعات التكنولوجية الحديثة، بدأت تتراجع لصالح قوى اقتصادية صاعدة خاصة بالشرق الآسيوي، التي استفادت من إمكانيات بشرية هائلة واستثمارات خارجية متزايدة، في مقدمتها اليابان والهند والصين التي أصبحت تتطلع للتفوق على القوة الاقتصادية الأمريكية.

ثانيا: الصعود الصيني وتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي

تعد الصين من القوى الاقتصادية الصاعدة، ظهرت على مستوى الساحة الاقتصادية العالمية بشكل متأخر، أي منذ نهاية السبعينات من ق 20، حينما انتقل اقتصادها من اقتصاد اشتراكي مغلق (مرحلة الاشتراكية مع ماوتسي تونغ ما بين 1949/1976)، إلى اقتصاد رأسمالي منفتح على الشركات والاستمارات الأجنبية (مرحلة دينغ شياوبين سنة 1978)، وقرارات مؤتمر الحزب الشيوعي الذي رفع شعار "العصرنات الأربع"، وهي: الولوج والانفتاح على العالم بشكل متوازن مع مصالح الصين، وتغيير المناهج التعليمية، والبحث في الحصول على التكنولوجيا الحديثة، وتحديث الصناعات الصينية، بمعنى آخر التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق. فكان من نتائج هذا التحول في النهج السياسي الصيني الانطلاقة الحقيقية للاقتصاد الصيني، حيث أصبحت الصين من الدول التي تحتل مراتب جد متقدمة على المستوى العالمي، من حيث الناتج الداخلي الخام بأكثر من 1576 مليار دولار محتلة بذلك المرتبة السادسة، وبقيمة مداخيل الصادرات ب361.3 مليار دولار محتلة بذلك المرتبة السادسة أيضا، و60 مليار دولار من الاستثمارات الخارجية محتلة بذلك المرتبة الرابعة. كما حققت الصين معدل نمو اقتصادي تراوح ما بين 7٪ و10٪ سنويا، وكان من المنتظر ان يرتفع حجم الاقتصاد الصيني خلال 2020 بأكثر من أربع مرات عما كان عليه سنة 2000، والناتج الإجمالي الخام أن يتجاوز أربعة آلاف مليار دولار، أي ما يعادل الناتج الإجمالي الخام الحالي لليابان.

انطلاقا من هذه المؤشرات الاقتصادية، تم تغيير النظرة الغربية للصين، التي تختزلها في الكتلة البشرية الضخمة، ولا يمكنها أن تشكل أي تهديد اقتصادي وأحيانا سياسي محتمل للغرب.

لكن التحولات البنيوية العميقة التي شهدها الاقتصاد الصيني، أعادت رسم خريطة القوة الاقتصادية العالمية، حيث تحول التنين من كتلة بشرية إلى قوة اقتصادية عالمية. بل أكثر من ذلك أصبح الاقتصاد الصيني مصدر قلق وموضوع جدل بالنسبة للدوائر الأمريكية والعالمية، التي توقعت أن الاقتصاد الصيني، في ظرف عشرين سنة ستصبح الصين "مصنع العالم"، متجاوزة الولايات الأمريكية التي ظلت محافظة على مكانتها الأولى عالميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ثالثا: فيروس كورونا وأزمة الأنظمة الليبرالية

من الخصائص المميزة لظاهرة العولمة، هو عولمة وتدويل كل شيء، فالظاهر أن العولمة لا تقتصر على تعميم القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية، بل تعدت ذلك لتشمل حتى الأوبئة. ويعد "فيروس كورونا" مثالا بارزا على ذلك. فقد انطلق من مدينة "ووهان" الصينية قبل أن يتحول إلى جائحة عالمية، محدثا رجة كبيرة داخل الأوساط الدولية، بحيث لم تسلم أي دولة من دول العالم من تأثيراته الجانبية الخطيرة. فحتى الدول الأكثر ديمقراطية، والتي لم تعر اهتماما كبيرا لهذه الجائحة في البداية، فإنها وقفت عاجزة عن التصدي وبشكل ناجع لوقف النزيف الذي أحدثه هذا الوباء. فجل الأنظمة الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، كإيطاليا واسبانيا وفرنسا وألمانيا... تأثرت بشكل كبير بـ"كورونا فيروس"، يتجلى ذلك من خلال ارتفاع عدد الإصابات والموتى، حيث بدت المنظومة الصحية بالدول الديمقراطية ضعيفة وأبعد ما أن تكون في مستوى مواجهة مثل هذه الجوائح. وهنا تظهر تلك النزعة الرأسمالية الجشعة للدول الديمقراطية في ظل نظام العولمة، والتي تهدف إلى مراكمة الأرباح عوض الاستثمار في البنيات التحتية الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم. كما تبين بالملموس غياب الجانب الأخلاقي لدى الدول الديمقراطية، حيث غاب الحس التضامني بين الدول الكبرى، خاصة داخل مجال الاتحاد الأوروبي، الذي يومن بفكرة الاتحاد والتضامن والمصير المشترك، حيث تركت الدول المتضررة بشكل كبير تواجه مصيرها المحتوم في مقدمتها إيطاليا.

وبالمقابل، اتضح بالملموس أن الصين التي ظهر بها الوباء في البداية على أتم الاستعداد من حيث البنية التحتية الصحية والأطقم الطبية، وأبانت عن مسؤولية كبيرة تجاه شعبها، حيث فرضت الحجر الصحي وحاصرت الوباء وعالجت المرضى بشكل مجاني وتجاوزت المحنة، وبدأت عجلة اقتصادها تدور ولو بشكل تدريجي. بل أكثر من ذلك، بدت الصين الدولة غير الديمقراطية والتي تحترم حقوق الإنسان قادرة على تقديم يد المساعدة للدول الديمقراطية، التي تأثرت بشكل كبير بجائحة كورونا في مقدمتها إيطاليا وصربيا وفرنسا وتونس.

فهل يمكن اعتبار كل هذ المتغيرات، مؤشرا على أن الوضع الدولي الحالي مقبل في القريب العاجل على مجموعة من التحولات من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية؟ هل تبدو المعطيات السالفة الذكر، قادرة على تحويل القيادة العالمية من قيادة غربية الى زعامة شرقية؟ ام ان الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية، لا زالت تمتلك الوسائل التي تمكنها من احكام قبضتها على العالم؟ أم ان التاريخ سينتصر ويعيد مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويشهد العالم مرحلة قطبية ثنائية جديدة تقتسمها الزعامة الغربية والشرقية بعد انتهاء أزمة كورونا؟

رابعا: السيناريوهات المتوقعة

هل من السابق لأوانه ان نتحدث عن تحولات مرتقبة للوضع الدولي بعد انتهاء ازمة فايروس كورونا؟ ام أن المؤشرات التي كشف عنها هذا الوباء، تنبئ فعلا بتحولات عميقة على المستوى الدولي؟

أولا: على مستوى الاتحاد الأوروبي، لقد أبان وباء كورنا عن غياب مبدا التضامن والتعاون بين الدول الأوروبية، كما أبان عن منطق الأنانية الذي لا زال يحكم معظم الدول الأوروبية. ومن جهة أخرى اتضح أن الدول الرأسمالية الليبرالية يحكمها أيضا منطق الربح، أكثر من الاهتمام بالجوانب الاجتماعية. مما ينذر بدخول الأنظمة الديمقراطية أزمة حقيقية، قد تعبد الطريق لصعود الأحزاب الشعبوية والمتطرفة، كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حينما عاشت معظم المجتمعات الأوروبية، خاصة فرنسا وإيطاليا، أزمات اجتماعية واقتصادية في ظل حكم الأنظمة الديمقراطية، مما أدى إلى ظهور قوى اجتماعية معارضة وعدائية للديمقراطية والليبرالية. وبالتالي يمكن أن نعتبر ما وقع داخل مجال الاتحاد الأوروبي، مؤشرا على تصدع الاتحاد وتفككه، خاصة في ظل التخلي الكامل للاتحاد عن مساعدة الدول التي تأثرت بشكل كبير كإيطاليا وإسبانيا. ثم ألا يمكن اعتبار مساعدة الصين لبعض الدول الأوروبية كإيطاليا بداية لتسلل التنين الآسيوي لمجال الاتحاد الأوروبي، واعتباره نوعا من التقارب بين النظامين الإيطالي والصيني في غياب الولايات المتحدة الأمريكية؟

ثانيا: هل التنين الآسيوي الصيني، له من الإمكانيات ما يؤهله لقيادة العالم بدل الولايات المتحدة الأمريكية؟ يبدو من خلال المعطيات السالفة الذكر، أن الصين تملك من القوة الاقتصادية ما يؤهلها للزعامة العالمية اقتصاديا، فكل المؤشرات تدل عل تفوق الاقتصاد الصيني، سواء من حيث مؤشر النمو أو من حيث الناتج القومي الصيني، الذي من المنتظر أن يصل إلى ضعف الناتج القومي الأمريكي في غضون العشر سنوات القادمة، على الرغم من أن بعض التقارير، تشير إلى هبوط حصة الصين من الناتج العالمي من 32٪ إلى28,3٪، والولايات المتحدة الأمريكية من13٪ إلى 9,2٪، مقابل صعود الهند إلى المرتبة الثانية بـ15٪، خلال سنة 2024 أي بعد نهاة أزمة كورونا.

لكن هل يمكن لهذا التنمر الصيني، أن يستمر دون استمرار الاستثمارات الخارجية بالصين خاصة الأمريكية منها، ذلك أن التطور التكنولوجي الصيني، لم يكن ليحصل لولا استثمارات الشركات الغربية الأمريكية. أما على المستوى السياسي والعسكري، فيبدو أن الصين لا ترغب في قيادة العالم سياسيا وعسكريا، وإن أرادت فهي تدرك أنها لا تمتلك الوسائل الضرورية والكافية لقيادة العالم سياسيا، ذلك أن القوة العسكرية الصينية، وباقي وسائل التغلغل الأخرى، كاللغة والثقافة ووسائل الاتصال الحديثة، لا تمكنها من سحب البساط من تحت الزعامة الغربية، وتحويل الريادة من ريادة غربية إلى ريادة شرقية.

ثالثا: الولايات المتحدة الأمريكية

يبدو أن مجموعة من الأحداث التاريخية العالمية، لعبت لصالح أمريكا حتى تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالميا، فقد استفادت من الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانكماش الاقتصاد العالمي بعد أزمة 1929م. وقد استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم الرأسمالي، خاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي وظهور نظام العولمة، حيث استطاعت التغلغل في جل مناطق العالم عبر شركاتها الكبرى العابرة للقارات، وقوتها الناعمة المتمثلة في اللغة والثقافة ووسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت من الأمريكان "الدركي" الذي يحرص ويراقب العالم بأكمله. لكن مع تفشي أزمة فيروس كورونا، اتضح أن أمريكا لا تهمها إلا مصلحتها "أمريكا أولا"، إذ أدارت ظهرها لبعض حلفائها في عز الأزمة وانشغلت بمشاكلها الداخلية، المتمثلة في ارتفاع عدد الإصابات بالفيروس، إذ أصبحت تحتل المرتبة الأولى على المستوى العالمي، وهواجسها الخارجية، خاصة ما يهدد مصالحها، وأقصد هنا القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي بخصوص فرض الحصار الاقتصادي على إيران في عز تفشي فيروس كورونا.

كل هذه التطورات، أدت إلى خلخلة العلاقات الدولية، وبالتالي يمكن اعتبار التحرك الصيني مؤشرا على بداية التقارب بين الانظمة الحاكمة في الصين وإيطاليا وإيران وروسيا وألمانيا، التي قامت بكسر الحصار الأمريكي على إيران، وانتظار سحب البساط من تحت أمريكا المتربعة على عرش العالم لصالح الصين بعد انتهاء أزمة كورونا. ولكن، كل هذا لا يمكن أن ينسينا، أن أمريكا لا زالت تمسك بمفاتيح التحكم في العالم، فقوتها وميزتها في قيمها، قيم الحرية والديمقراطية، ومركز التجارة والمال العالميين، وبالتالي لن تسمح لأي قوة اقتصادية أخرى أخذ زمام العالم. خاصة إذا علمنا أن الصين نقطة ضعفها احتياجاتها الكبيرة الى النفط، الذي يكمن أن يكون سلاحا قويا تلجا اليه أمريكا للحد من السيطرة الصينية مستقبلا.

خلاصة القول، إن فيروس كورونا أحدث حلحلة للعلاقات الدولية، سواء في الشرق أو الغرب، ففي الوقت التي بدت الدول الرأسمالية الليبرالية منطوية على نفسها تنهج أسلوب الحمائية متخلية عن مضامين دساتيرها وقيمها الديمقراطية والليبرالية... وبالمقابل أبانت الأنظمة غير الديمقراطية والمتحكمة في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، كما هو الشأن للصين عن قدرة كبيرة لمحاصرة الجائحة في أفق القضاء عليها نهائيا، بل أكثر من ذلك أكثر إنسانية، لما أمدت يد المساعدة للدول المتضررة.

أما من الناحية الاقتصادية والسياسية، فهل ستكون جائحة كرونا إيذانا بجلوس العملاقين إلى طاولة المفاوضات، والاتفاق على نظام عالمي جديد ينهي مرحلة القطبية الأحادية للعالم وبداية قطبية ثنائية أو متعددة الأطراف تتزعمها كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية؟

 

العربي بنرمضان