قدر الله تعالى الوباء، وحلت الجائحة التي ليس لها من دون الله كاشفة، فخضعت الرقاب، وبدا أن أنجع أسباب الوقاية منه التراجع إلى الوراء دون ارتياب، فجاء القرار: الزموا بيوتكم تَسْلَمُوا، ولا تغامروا تندموا. فلم يكن بُدّا من الانخراط طوعا أو كرها في الحجر الصحي، فاختلت برامج الناس، كل الناس دون استثناء، فـ"كُورُونا" عادلة لا تعترف بتمييـز أو تعامل تفضيلي بين الأفراد والـمجتمعات، ليجد الجميع حُكاما ومحكومين أنفسهم ملزمين بتغييـر عاداتهم اليومية سعيا للتعايش مع واقع غير مألوف، ويكتشفوا نِعماً كانوا يَـرْفُلُون فيها، ما كانوا مُقديريها حق قدرها، ونعما أُخَرَ سلبتهم طاحونةُ العادة فرصة الاستماع فيها.

بعد هذا التأطير لسبب النزول، أنتقل لأقاسمكم خواطر من فيض "كورونا"، بما هـي ملازمة اضطرارية للبيت وخروج عن الـمألوف اليومي؛ خواطر قدرتُ تأطيرها بعبارات وإشراقات للأمريكية هيلين آدامز كيلر التي حرمت حاسة البصر من كتيبها "لو أبصرت ثلاثة أيام"، تقول: "لقد اقتنعت منذ زمن بعيد أن هؤلاء الذين يُبصرون لا يرون إلا قليلا!".

من منطوق العبارة، يُستشف عدم تقدير النعم الذي أغدقها الله الكريم الوهاب علينا، وما أغزرها من نعمٍ ! "وإن تعُدُّوا نعمة الله لا تحصوها". ومن هذه النعم، نعمة العافية والإيمان والأهل والدين أزواجا وأبناءً...

الـمكوثُ فـي البيت وملازمتُه فرصةٌ لاكتشاف نعمة السكينة وما تبذله الزوجة ربة بيت كانت أو مزاولة لعمل خارج البيت من جهود مضنية لإسعاد الأسرة زوجا وأولاداً، نِعمٌ بحكم العادة أصبحت مألوفة من طرف الـمستفيد، وروتينا يوميا مملا من طرف الزوجة، لا سيما إذا كانت ربة بيت، وما أدراك ما ربة بيت! فقد لا نلتفت إلى حجم الجهود الـمبذولة يوميا لتأمين الخِدْمات اليومية للأسرة، أو على الأقل، لا نقدرها حق قدرها، فصارت حقوقا مكتسبة نغضب إذا انتُقصت أو حتى تأخرت. إنها العادة تفقد الأشياء بما فيها التعبدية جوهرها، فشُرع تفاديا لذلك تجديد النية. تقول هيلين كيلر: "إن كثيرا من الزوجات لا يفتأن يجأرن بالشكوى من أزواج لهن لا يولون اهتماما لـما يطرأ على البيت من ترتيبات جديدة. إن عيون هؤلاء الـمبصرين لا تلبث أن تعتاد رؤية الأشياء، ولا تلبث أن تصبح تلك الأشياء التي من حولهم رتيبة مبتذلة".

إن العادة والتسليم والاستسلام لضغط الزمن ووطأته أفقدنا فرصة عيش اللحظات، لحظة لحظة، فلا استمتاع بلحظة ود وصفاء عاطفي بدعوى التهمم بأحوال الأولاد. "أذكر أنني سألت بعض الأزواج ـ تقول هيلين كيلر ـ ممن عاشروا زوجاتهم طويلا عن اللون الذي تمتاز به عيون زوجاتهم، وفي أغلب الأحيان، عبروا لي عن خجلهم وارتباكهم، واعترفوا بأنهم لا يعرفون حقا ألوان عيون أزواجهم"؛ ضغط الزمن ووطأته تسرق منا الأعمار، فيلتفت الأزواج، فإذا هم أجداد؛ ضغط الزمن يحرمنا من الاستمتاع بلحظات نمو وترعرع أبناء عاشوا ويعيشون تائهين بين حصص تعليمية في الـمدرسة، وبين ساعات إضافية مسائية، نستعجل حرقهم للمراحل الدراسية أملا في الاطمئنان على مستقبلهم. فمتى نمعن النظر إلى الأبناء، ونشاركهم شغبهم الطفولي؟ متى نجالسهم، نحاورهم، نتقاسم معهم انشغالات جيلهم، نتعرف أو نحاول أن نتعرّف طباعهم ومزاجهم، نكتشف مواهبهم التي نفاجأ بها في حفلات مؤسساتهم التعليمية؟

لذلك، ومن باب الاستدراك والتصحيح، فقد منحنا الحجر الصحي "الكُورُونـي" فرصة استثنائية، لننعم بالنعم التي أغدقها علينا الكريم الوهاب. وفـي الحديث: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". نعمة الأمن في الأسرة والعائلة، نعمة العافية، نعمة القوت، تستوجب الشكر، ومن مقتضيات الشكر تقدير النعمة في حد ذاتها، وعليه "يجب ـ تنبهنا هيلين كيلر ـ أن نعيش كل يوم ونحن نقدر تمام التقدير، وندرك تمام الإدراك النعم التي تحيط بنا، والتي غالبا ما تفقد قدسيتها عندما يمر أمامنا الزمان في هذا الـمشهد الدائم الذي يمضي بأيامه وشهوره وأعوامه."

حري بنا أن نكتسب هذا السلوك الراقي، سلوك الاعتراف بالجميل لـمن ندب نفسه تطوعا لخدمتنا. لذلك قررت هيلين كيلر أن "أول ما أقوم به ـ لو قُدّر لها أن تبصر ثلاثة أيام ـ رؤية هؤلاء الناس الذين جعلوا من حياتي شيئا يستحق الذكر، بفضل عطفهم ولطفهم وإخلاصهم. أولا، سيكون عليّ أن أُنعم (أدقق)النظر طويلا في محيى عزيزتي وأستاذتي الآنسة صاليفان ماسي... لا أريد أن تكون رؤياي عابرة تقتصر على تأمل الـملامح البارزة لأسارير وجهها... ولكني أريد أن أدرس ذلك الوجه درسا، لأقرأ فيه الشاهد الجلي على ذلك العطف والودّ والصبر الذي كانت تتحلى به وهي تقوم بأداء مهمتها الشاقة من أجل تربيتي وتعليمي. أريد أن أرى عينيها الـمليئتين بالعزم والقوة...، عينيها الـمليئتين بالرحمة والشفقة بجميع أفراد البشر... "؛ عبارات تفيض عرفانا وجميلا لـمن أحسن إليها. وبمثل هذا السلوك الراقـي يُنمّى رصيد الألفة وتشيع معاني الوُدّ فـي الأسر، تسقي شتلات "وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" لتنمو وتستحيل أشجارا وارفا ظلالها، طيبة ثمارها.

لننظر، ونحن في فترة الحجر الصحي، حيث نقضي إقامة جبرية مع أهلنا وأحبابنا، ممن أسدَوْا ويُسدُون لنا خدمات يومية جليلة، ونحن مدينون لهم بالجميل سنوات، إن لم تكن عقودا، أمهات وآباء أفنوا أعمارهم في تربيتنا وتأهيلنا لنكون من نحن اليوم، وأزواجا بذلن وما تخلفن لإسعادنا وتوفير أسباب السكينة الأسرية لننعم بالطمأنينة، ما هو الحيز الزمني الذي نخصصه اعترافا بالتصريح والـموقف لا التلميح، اعترافا متجددا تجدد الخدمات اليومية، فنسعد جميعا خادما ومخدوما. وعلى قدر منسوب الاعتراف تكتسب الحياة الأسرية حظها من الكمال والجمال. تقول هيلين كيلر: "عليكم أن تبصروا حقيقة الأشياء، إنكم إن فعلتم فستشعرون بأن عالـما جديدا من الجمال يكشف نفسه أمامكم".

ماذا لو أبصرت ثلاثة أيام" للأمريكية هيلين آدامز كيلر، ترجمه إلى العربية الدكتور عبد الهادي التازي سنة 2015.

الشكر موصول للأخ الصديق (ح.ت) الذي أهداني الكتابي في نسخة الكترونية ودعاني لقراءته.

أدرك تمام الإدراك أن مضامين هذه الـمقالة مؤصل في ديننا، مفصل في كتاب الله وسنة نبينا، وقد كان صلى الله عليه وسلم خيرنا لأهله، ولكني آثرت التذكير بهذه القواعد من خلال الـمشترك الانساني، حرصا على تفاعل أكبر وأوسع مع رسائل الـمقالة.

 

الـمصطفـى سـنكي