قبل قرن تقريبا سنة 1900 كان عدد نفوس العالم على الكرة الأرضية مليار ونصف المليار بشر، والان وصل الى اكثر من سبعة مليارات، ومتوسط عمر الانسان كان 57 سنة والان وصل على المستوى العالمي الى 73 سنة (الامم المتحدة2019)، ولا شك ان هذه القفزة الكبيرة في زيادة عدد النفوس وزيادة معدل متوسط العمر تعود الى اسباب كثيرة تعود بجذورها الى تحقيق التقدم والتطور بمستويات عالية في المجالات العلمية والطبية والصحية والغذائية والسكانية والتنموية بالدرجة الاساسية، ولعل اهم ما يمكن حصرها هو ما يلي:

(1) اكتشاف الأدوية والعقاقير للقضاء والمعالجة من الامراض بصورة عامة، حيث ان هذه المواد الطبية غيرت من مجرى التاريخ في حياة البشرية، وخاصة المضادات البكتيرية حبث حققت تقدما مذهلا في مجال الصحة والسيطرة على الامراض لحماية الانسان منها، والنقلة الصحية التي حصلت بفضل الادوية خفضت من نسبة الوفيات وزادت من نسبة نمو االسكان، وبنفس الوقت زادت مستويات القدرات المناعية الذاتية لجسم الانسان ضد الامراض.

(2) اكتشاف اللقاحات والتطعيمات ضد امراض الاطفال، وخاصة الفتاكة منها، والتي كانت تقضي على نسبة كبيرة من الولادات الحديثة والاطفال باعمار 1-5 سنوات، مثل اللقاحات ضد الحصبة والخناق والجدري وغيرها، وبفضل التطعيمات فانها وفرت القدرة المناعية الذاتية داخل الجسم لحماية الاطفال والولادات الحديثة وتوليد المقاومة لديهم ضد الامراض الفتاكة التي كانت تصيبهم، وتحقق ذلك من خلال تقوية الجهاز المناعي وزيادة القدرات الجسمية الدفاعية ضد المسببات المرضية من الفايروسات والاحياء المجهرية المبكروبية.

(3) التحسين الغذائي النوعي الكمي لجميع انواع المواد والاكلات والاطعمة الصالحة للاستهلاك البشري، والحاوية على البروتينات والكربوهيدرات والدهنيات والاملاح والمعادن والفيتامينات، وذلك من خلال ضمان مصادر رئيسية متنوعة من الحبوب واللحوم والزيوت والخضروات والفواكه لاغلب سكان العالم، مناسبة من كافة النواحي الصحية والاقتصادية، وهذا ما ساعد بدرجة كبيرة على تحقيق نسبة عالية من نمو جسم االانسان بصورة طبيعية وصحية جيدة بعيدا عن المرض والاوبئة التي كانت تعصف بالبشرية نتيجة سوء التغذية وشحة المواد الزراعية، وهذا العامل التحسين الغذائي ساعد ايضا على زيادة القدرات الجسمية المناعية لاذاتية للانسان لمجابهة الامراض.

(4) التحسين النوعي للنظم التربوية في رعاية وتعليم الاطفال والتلاميذ والطلاب في محال نشر وتعليم العلوم، هذا العامل ايضا ساهم بدرجة كبيرة في توفير واستيعاب الثقافة الصحية الطبية والبيئية والاجتماعية وعلى مستوى العالم، وهذا ما حقق تطورا نوعيا وكميا في كل مجالات حياة البشرية، وبنفس الوقت زاد من مستوى القدرة المناعية للانسان لمقاومة ومجابهة الامراض والاوبئة.

(5) التغيير والتقدم النوعي للنظم التعليمية في الجامعات والكليات والمعاهد وعلى مستوى جميع دول وشعوب العالم، ساهم بدرجة كبيرة في اطلاق عالم جديد من العلوم التطبيقية الحديثة والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والغذاء والدواء والعقاقير، مما كان له الدور الرئيسي في تغيير حياة الانسان وتحقيق نقلة نوعية مقارنة مع الحياة االتي كانت سائدة قبل مائة سنة وقبل قرون ماشية، وهذا ما ساعد ايضا على تحقيق نقلة نوعية في زيادة قدرات جسم الانسان من النواحي الصحية والغذائية والدفاعية وبالتالي زيادة معدل العمر وقلة التعرض للامراض والاوبئة، وبنفس الوقت زيادة القدرة المناعية الدفاعية لجسم الانسان ضد الفايروسات والميكروبات والاحياء والكائنات المجهرية المسببة للامراض والاوبئة.

باختصار هذه العوامل التي ذكرناها، والتي اخذت مسار طريقها خلال مائة السنة الماضية بمراحل متلاحقة، كانت الاسباب الحاسمة في زيادة النفوس من مليار الى سبعة مليارات، وفي المساهمة بدرجة اساسية في توفير سلاح فعال جدا لدى الانسان للمقاومة ومجابهة المسببات المرضية للاوبئة الفتاكة على صعيد البشرية كلها، والسلاح هو تقوية الجهاز المناعي للانسان للدفاع عن نفسه ضد المسببات الفايروسية والمبكروبية، وهذا ما اتاح للبشرية جمعاء ان تدخل القرن 21 وهي مزودة باسلحة بايولوجية مناعية دفاعية لم تكن متيسرة في القرون الماضية، وابرز ظهور لمقاومة الانسان البايولوجية المناعية هي المجابهة التي حصلت مع وباء سارس قبل عقد وعقدين، والصراع الحاصل في الواقع الراهن مع وباء فايروس كورونا، فلولا القدرات الدفاعية الذاتية لاغلب سكان العالم لفتك الفايروس بأغلبية البشر ولقضى على النفوس بمئات الملايين، كما حصل مع الانفلونزا الاسبانية حيث وصل عدد الضحايا الى 50 مليون انسان.

من هذا نستنتج ان فايروس كورونا الذي اجتاح العالم خلال اسابيع قليلة انطلاقا من الصين، وللاسباب التي ذكرناه اعلاه، لم تقدر على اظهار ضراوتها الشديدة لتضرب البشرية بنسبة عالية من الاصابات والوفيات، لذلك جوبه الفايروس بمجابهة جيدة من الالتزام العالي بالتوجيهات والتوعية بالاجراءات الصحية الشاملة، والمقاومة الجسمية الذاتية على صعيد الجهاز المناعي وذلك لوجود مستويات من المناعة الذاتية في اجسام البشر في المرحلة الراهنة، ولهذا نجد ان ساحة الفايروس محدودة في اصابته وضراوته بالرغم من انتشاره الواسع في اغلب بلدان العالم، والدليل على ذلك هو وجود نسبة اصابة لا تتجاوز 3 من الالف ونسبة وفيات لا تتجاوز 1 من عشرة الاف، فحسب الارقام االمسجلة دوليا على المستوى العالمي فان عدد الاصابات بنهاية يوم الاثنين 233 وصل الى 373500 وعدد المعالجين الى 101399 وعدد الوفيات وصل الى 16318 حسب احصائيات منظمة الصحة العالمية.

وحسب تفسير زيادة القدرة المناعية للانسان في العقود الماضية فان هذا الامر جعل ان لا تزيد نسبة الاصابات مقارنة بنفوس العالم على المستوى الدولي في الواقع الراهن عن 0.0035% يعني ثلاثة بالالف، ونسبة الوفيات الى 4% مقارنة مع عدد الاصابات، ونسبة المعالجات الى 31% من عدد الاصابات، والحالة الصينية كشفت ان فترة الوباء تنحصر بين 2-8 اسابيع ثم تيدأ بالتراجع، وهذا ما يفسر مرور اي دولة مصابة بالفايروس بنفس هذه الفترة للخروج من وباء كورونا بأقل الخسائر البشرية والمادية.

ولهذا نجد ان نهاية فايروس كورونا باتت قريبة، وستظهر اوج ضربات الفايروس في نهاية شهر اذار وبداية نيسان، وثم تبدأ بالانخفاض في عدد الاصابات والوفيات تنازليا وتبدأ بالزيادة في عدد المشافين تصاعديا، الى ان تصل مستوى الاصابات الى ظهور حالات فردية في شهر ايار لا تلبث ان تبدأ بالاختفاء، ولكن من النحاية الوبائية لا تستبعد ظهور وباء كورونا من جديد في مواسم لاحقة في فصل الشتاء وبداية الربيع، وحينها ستكون للقاحات التي من المنتظر تصنيعها وانتاجها قريبا من قبل الشركات الدوائية العالمية دورها الفعال في السيطرة والقضاء على الوباء.

ولا يخفى ان فايروس كورونا بالرغم من مخاطرها على مصير الانسان، الا انه حمل معه ايجابيات عديدة للبيئة واصدقائها، فقد انخفضت الملوثات البيئية بنسبة 25% من البنزين والنفط ومحروقات الطاقة والمحركات على مستوى العالم، وكذلك قلت نسبة المواد الكاربونية والمواد العضوية في الهواء، وكذلك سجلت نسبة انخفاض في ترسب المواد والشوائب الضارة على النباتات والاشجار في عموم مناطق العالم.

والمهم في الامر ان البشرية ستقدر بنهاية المطاف في القريب الاتي من السيطرة على وباء كورونا، ولكن من المحقق ان عالم ما قبله لن يكون عالم ما بعده، والاول لم يكن منصفا بالعدل والانصاف في ظل راسمالية وحشية مقيتة، وفي ظل انظمة حاكمة تسرق الدولة بكامل مواردها وثرواتها، والشعوب ترمى في جهنم من نار تحرق الاخضر واليابس، لهذا لابد من تغيير بالعقول والنفوس والوجوه لاعادة التوازن الى العالم الراهن المفجوع، ولابد من اعادة التفكير بالنظام المالي والاقتصادي والانتاجي العالمي، ولابد من تقليل الفوراق بين الدول والشعوب الغنية والفقيرة، ولابد من ازاحة للانظمة القمعية، ولابد من اعادة اعتبار للعدل والمساواة، ولابد لمجموعة الدول السبعة، ولمجموعة الدول العشرين ان تأخذ بزمام الامور للبدء بتغببر لصالح شعوب العالم، والا فان غزوات الفايروسات مهلكة وقاضية للارواح والاموال، وان غدا لناظره قريب.