العلاقة بين شكل الدولة كنظام سياسي سيادي حاكم والمجتمع هي علاقة تظل شائكة ومضطربة لاسيما في الفترات التي تعقب الثورات السياسية التي قامت تحت ضغط اجتماعي أو بالأحرى في ظل غياب الوعي الاستشرافي بالوطن وفقدان القدرة على التنبؤ بإحداثيات المشهد السياسي الراهن، ونلتمس هذه الصورة في كل الدول التي تسعى لتنسم نسائم الربيع العربي الذي بدأ باحتجاج ثم مر بتظاهرة فريدة في التناول وانتهى بحالات طويلة من الكساد السياسي والجدل المجتمعي حول تنظيرات كلامية أغرقت المجتمع بأسره في دواماتها وأيديولوجيات أصحاب هذه الطروحات الفلسفية.

ومجمل ما تم طرحه من تنظيرات سياسية استهدفت الحديث عن مدى توجه التركيبة الاجتماعية في الوطن العربي الضارب في الاشتباك الإعلامي المستدام نحو الحالة السياسية الراهنة والمستقبلية أيضا وبخاصة مشهد الظهور السياسي لبعض الوجوه التي باتت مكرورة بل ورتيبة أيضا في لبنان والعراق وليبيا وتونس ومصر مؤخرا، هذا المشهد الذي بدأ في قرع طبوله مبكراً وقبل إعلان أية استحقاقات ديموقراطية مرتقبة بفترة طويلة. وبالنظر إلى التركيبة الاجتماعية في هذه البلدان يسهل علينا التنبؤ بأية إحداثيات تجري استشرافياً على المشهد السياسي، لاسيما وأن السياسة صارت الملمح الأبرز في تاريخ العرب الراهن، ويبدو أن أبناءنا وأحفادنا حينما يلتقطون كتاب تاريخ الوطن العربي بعد قرون سيدهشون بحالة الاستنفار السياسية التي سادت على المجتمعات العربية البائسة ثقافيا وتنويريا أيضا، وربما سيوجهون عدة أسئلة مفادها هل هذا الجيل لم يكن متفرغاً لقضايا وطنه الاجتماعية، أو أنه لم يفكر بعد في زراعته وصناعته ورسم خرائطه قبل وبعد الموافقات الصهيونية.

هذه التركيبة الاجتماعية في العادة لا تخرج عن المثلث الديموجرافي المكون من النساء والأطفال والرجال، والترتيب يجئ وفق إحصائيات تفيد هذا الترتيب المنطقي لهم، فعدد نساء الوطن العربي في البلدان المذكورة سالفا في تزايد وهي فئة أصبحت منذ اهتمام المنظمات النسائية العالمية ومنظمات المجتمع المدني المنتشرة في تسارع وتصارع بها كفة ميزان لا يمكن الاستهانة بوجودها الاجتماعي، وفي أثناء المشاهد الميدانية لكافة الانتفاضات الشعبية التي حدثت منذ بدايات 2011، والخروج الشعبي لهن في الثلاثين من يونيو لعزل محمد مرسي في مصر على وجه الخصوص شكلت المرأة ملمحاً مهماً لا يمكن الفكاك من شهوده سياسياً.

ثم تأتي فئة الأطفال الذين بحق يدفعون فاتورة أعوام طويلة وبعيدة من التهميش الذي كرس له الحكام الذين قامت الانتفاضات الشعبية بشأنهم وشأن سياساتهم، فتمكن هؤلاء باقتدار وكفاءة أيضا من إعداد جيل تعليمي كامل لا يعي بحاضره ولا يفطن لمستقبل آت، ومنهم من صار مشرداً احتفت مؤسسات المجتمع المدني وهيئاتها بهم وأطلقوا عليهم مصطلح أطفال الشوارع التي صنعوها وشيدوها بأيديهم ومهدوا سبلها لأطفال يحلمون ويطمحون وتقتل آمالهم تحت أقدام واقع مضطرب صار سياسياً أكثر منه اجتماعي أو إنساني.

أما الرجال القابعون في السلاملك فهم بالفعل يأتي ترتيبهم في مؤخرة التركيبة الاجتماعية، لا لقلة أهمية، أو انتفاء دور لهم، لكن هم كعادة المخرج الذي يأتي في نهاية العمل الفني، يصدر أوامره من خلف الكاميرا، فيؤدي الممثلون أدوارهم غير الحقيقية من أجل صناعة مشهد قد يستحق التقدير أو يذهب كمخرجه في صندوق النسيان الأبدي.

وإذا نظرنا إلى صنيع السلاملك الذي نشير به إلى رجال الوطن العربي من الرموز السياسية الغائبين عن المشهد الراهن، فإننا ندرك سريعاً ما أصاب النساء والأطفال في في الوطن العربي من تطور أو تدهور على المستويين الاجتماعي والسياسي، فبرغم الطرح التنظيري الذكوري لضرورة مشاركة المرأة في المشهد السياسي بصورة رسمية، إلا أن واقع التنظير لا يرمي إلى هذا، بل اقتصرت المشاركة الفعلية للنساء على الظهور أمام شاشات التلفاز لمناقشة قضية سياسية من وجهة نظر نسوية محضة، أو من خلال المشاركة الصوتية أمام نقابة ما أو مؤسسة رسمية في صورة تظاهرة، وكأن لسان حال المنظرين الرجال يقول إن هؤلاء النساء هن جسور العبور نحو تحقيق مصلحة عن طريق التعاطف مع ظهورهن وأصواتهن المرتفعة.

لكن يبدو أن صورة المشهد الخاص بالتركيبة الاجتماعية ستتغير بقوة ونحن إزاء حالة من الجمود السياسي الحزبي الذي بات بغير ملامح واضحة أو على مستوى طموح المواطن، بل أؤكد أن بعض الدول ومنها مصر على وجه التحديد أصبحت الدولة بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي الرئيس المصري أكثر صدقا ومصداقية وحراكا بل وشعبية والتصاقا بالشعب وهمومه أكثر من تلك الأصوات الحزبية الورقية.

 بل يمكنني التأكيد على أن النساء سيلعبن أدواراً مختلفة ومتباينة ستغير دفة سفينة العملية الانتخابية التي ستحدث في مصر بشأن مجلس النواب في نوفمبر 2020 برمتها. وفئة النساء في مصر تقتصر على نوعين فقط مع إقصاء فئة الصغيرات، فالفئة الأولى وهي تشمل الشابات اللواتي ينقسمن إلى تيارات سياسية متباينة تجمع بينهن سمة الثورية واحتدام المشاركة السياسية والظهور الاستثنائي في المشهد بقوة إما عن طريق تنظيم الوقفات الاحتجاجية التي تبدأ عادة بمناهضة التحرش الجنسي انتهاء بحقهن في الوجود السياسي الرسمي وتمثيل مشرف وكامل للمرأة في المحافل الرسمية.

أما الفئة الثانية فهي قاصرة على السيدات الراشدات اللاتي يجدن أنفسهن حائرات أمام عجلة المشهد السياسي التي لا تريد التوقف أو الدعة والراحة، وهؤلاء نجدهن منقسمات على أنفسهن بين فصيل يجد حنيناً سياسياً لعصر مبارك ونظامه لاسيما المتعلق بحالة الاستقرار السياسي وشيوع الأمن والأمان وغياب أعمال العنف والبلطجة، والعودة مجدداً إلى اجترار مفاهيم تمكين المرأة وحقوق المواطنة السياسية والتمثيل العادل، دون الاكتراث بأية ممارسات سياسية لمبارك تلك التي تتعلق بالمناحي الاقتصادية أو المجتمعية، وفصيل ثان يرغب في التجديد بالنسبة للوجوه والشعارات والبرامج السياسية وأرى أن هذه الفئة هي التي تتوافق مع منظومة مصر الحديثة ورؤيتها المعروفة برؤية مصر 2030.

وهناك ثمة ملمح حصري خاص بالمشهد السياسي المصري والذي يتعلق مباشرة بالتركيبة الاجتماعية، وهو مدى المشاركة في الاستحقاقات السياسية الرسمية، فالشباب رغم أنهم دائماً وأبداً نقطة البداية في الحراك السياسي والاجتماعي عن طريق تدشين الحملات أو إنشاء الحركات السياسية على المشهدين الإعلامي الفضائي أو الميداني بالجامعات والنوادي الاجتماعية إلا أن هؤلاء يشكلون لغزاً كبيراً بعدم مشاركتهم في المشهد السياسي الرسمي، فنجدهم رغم حرصهم على التواجد في الشارع غير مكترثين بأية استحقاقات سياسية رسمية كالانتخابات أو الاستفاءات على قانون أو دستور أو مشروع وطني، ومشكلة الشباب الحقيقية ليست في قلة خبرتهم السياسية، ولا في ضعف الوعي السياسي التنظيري لديهم بل تعد أزمتهم الحقيقية أنهم يجدون أنفسهم دوما بعيداً عن التمثيل السياسي الرسمي في تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، وأحياناً أخرى سجدون أنفسهم في مقام الاتهام بالعمالة والخيانة والانضمام إلى الطابور الخامس، الأمر الذي يدفعهم بقوة إلى العزف خارج السرب. ناهيك عن قناعاتهم الفكرية بأن الثوري دائماً يقف بمعزل عن النظام الحاكم وهي الفكرة التي لم يتخل عنها الشباب منذ إسقاطهم لمبارك ونظامه، وعزل مرسي وجماعته.

وحقاً ستكون تجربة الانتخابات البرلمانية المقبلة في نوفمبر 2020 رهاناً جديداً لقوة التركيبة الاجتماعية في مصر من رجال ونساء، وسيواجه المرشح رهقاً ونصباً في التغلب على مطامح هذه التركيبة المعقدة، والتي لا يمكن أن نفصل عامل الدين عنها، وهو ما نلمسه من توجهات بعض التيارات الدينية الإسلامية تجاه مرشحي الرئاسة، أو من خلال محاولات الاستقطاب العكسية التي تمارسها بعض المؤسسات أو التنظيمات الدينية في مصر لبعض المرشحين، ومما لاشك فيه أن التركيبة الاجتماعية بقدر قوتها وتباينها وشهودها السياسي الملحوظ منذ اشتعال فتيل ثورة يناير الشعبية ومن بعدها تصحيح المسار في الثلاثين من يونيو، ستشكل عبئاً على كاهل مرشحي مجلس النواب، بل قد لا أبالغ إذا أشرت إلى أن التفاف عناصر هذه التركيبة حول مرشح بعينه دون غيره سيكون حجر عثرة في طريقة نحو المجلس، وهو الأمر الذي ينبغي أن نلفت النظر إليه، فبين نساء يحتجبن عن المشاركة، وأخريات لا يرون أن المرشح سيقدم شيئا موازيا لسرعة الدولة وهذا التعافي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحققه على أرض الواقع، وهذا القرب التاريخي بين الرئيس عبدالفتاح السيسي والشعب المصري أكثر من هذه الوجوه الموسمية، وشباب لا يكترث بواقعه أو بمطامح الوطن، وحفنة من الرجال بين خبير ومنتفع وأكثر صمتاً دائرة صغيرة تجمع المرشحين لانتخابات مجلس النواب، وهم وحدهم يمتلكون حق الاستقطاب من الاستلاب والإقصاء، حيرة أن تكون ممثلا للشعب لوطن مثل مصر، ودهشة لمجتمع متباين!

د. بليغ حمدي إسماعيل