أولا:الحروب بين سلبيات البواعث وإيجابيات المقاصد

جدلية السلم والحرب قديمة قدم الوجود الإنساني، بل الكائن المتحرك الحي والنامي والمستهلك.وذلك لسبب رئيسي بسيط ،ومعقد في نفس الوقت، وهو المزاحمة على المكان والمكانة ،التي تعني السلب بعد العطاء والطلب من أجل البقاء والقلق على المكتسبات من الضياع أو الفناء.كما أن هناك تساؤلا عقديا وفلسفيا حول :هل السلم هو الأصل أم الحرب بالنسبة للتواصل الإنساني؟.فإذا نظرنا إلى طبيعة الحرب وخاصيتها الإفنائية والتدميرية فإنها تكاد تكون هي الأصل حينما نقارنها بالوجود الإنساني فردا أو مجتمعا وذلك لأنه قد كان عدما ثم وجد ،والعدم طريق للوجود ولكن بموجد ضرورة !!! وإذا نظرنا إلى أصل الوجود والمتحكم فيه إيجادا وعدما قلنا بأن الأصل هو السلم ،ومن أسماء الله الحسنى السلام.فتكون الحرب طارئة وعارضا يعترض الوجود الإنساني في فترات معينة بالضرورة

وهذه البواعث وجدت منذ عهد آدم وحواء و معارضهما الشرس إبليس رمز الشقاء والحقد والحسد والمكر وممتهن الخطط للإيقاع بالخصم مهما كلف الثمن.ومن هنا كان مصطلح الإستراتيجية المقاربة لكلمة الكيد و المكر بالعربية والتي تقتضي المعاملة الخفية والسريعة بالمثل حتى تسري فعاليتها ضد الغرض والمعارض:" وَيَمْكُرُونَ

وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ "" إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا".

فالحرب قد ابتدأت كنتيجة للسلم وشروطه الملزمة للجميع باحترام القوانين والحقوق والواجبات منذ أن استفاد آدم وحواء بالمنح والتخصيص وتم طرد إبليس طردا نهائيا من عالم الجنان والملك الذي لا يبلى" وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ".

من هنا كانت البداية والشرارة الأولى لإعلان الحرب بين الجانبين بل من الداخل الإنساني،مثل قابيل وهابيل، هذا محظوظ وذاك مرفوض ،والمبادر للحرب دائما يكون هو المرفوض والرد يأتي بالضرورة، وبحسب مقتضى الحال ،من جهة المحظوظ فإما قاتل أو مقتول أو سالب ومسلوب..." سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".

وفي تفسير لهذا التداول التاريخي يقول ابن خلدون كفيلسوف اجتماعي ومؤرخ:"اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله.وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ،ويتعصب لكل منها أهل عصبيته.فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ،إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل.

وسبب هذا الانتقام في الأكثر :إما غيرة ومنافسة ،وإما عدوان،وإما غضب لله ودينه ،وإما غضب للملك سعي في تمهيده... فهذه أربعة أصناف من الحروب :الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة،والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل ".

يستنتج من هذا أن الحروب ليست كلها سلبية ولا عدائية وإنما بمقتضى التدافع الوجودي والمصلحي قد تكون واجبة وضرورية ،بالرغم من كراهية النفوس لها ومما يعتريها من مآسي وآلام وترمل وتيتم ودمار.إذ العبرة بما سيأتي

بعدها من استقرار وتطور وإعادة إعمار ومراجعة للسلوك، سواء الفردي أو الجمعي ،بل مراجعة للمعتقدات وتصحيح للنيات وتوثيق لعرى الوطنيات...

وفي هذا المعنى نجد قول الله تعالى مشيرا إلى الحكمة من وراء القتال قد لا يعرفها الكثير في الظاهر البسيط:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".

وهنا يكمن سر وضع الخطط الحربية لتفادي هذا الكره بأقصى ما يمكن من الحذر والمكر والخديعة والتستر والاستدراج والتورية،و التي ستوظف في التاريخ الإسلامي على أعلى مستوى من الذكاء والمراوغة لحد أن وصف النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الحرب بأنها خدعة وأمر بعض صحابته باستعمال وسائل تقنية عالية المستوى لتضليل العدو والتخذيل كما حصل عند غزوة الخندق وغيرها من الغزوات.

ثانيا:التكامل الاستراتيجي وشروط التوظيف المسؤول

ولكن هذه الحروب لم تكن مجازفات أو تخمينات من فراغ ورمي في عماية ،وإنما كانت قائمة على خطط واستراتيجيات محددة وثابتة لا يمكن الخروج عنها وإلا كانت الهزيمة هي النتيجة لا محالة.

كما أنها لم تكن عند الدول المتحضرة والأصيلة مبنية على ما يعرف بصناعة الموت الإجرامية وتوظيف أشر خلق الله لتنفيذها،وأيضا المبادرة والاعتداء في الابتداء لمجرد الاعتداء والتسرع في إعلان الحروب،وإنما هي ،وخاصة ذات المرجعية الدينية والأخلاقية العلمية الحقة والعادلة ،كانت تبني تحركاتها وقراراتها على اعتبار المعاهدات و التكافؤ والتمهيد ،والوعد والوعيد ثم يأتي بعد ذلك التنفيذ.وللتاريخ كلمته في ذلك.

في حين قد كان يغيب منطق الغدر والحروب القذرة لدى كثير من الدول الكبرى حينما تكون واثقة من قوتها وإستراتيجيتها الحربية ذات الأبعاد الحضارية والإنسانية العامة.كتوظيف السم وتلويث المياه والهواء لقتل الإنسان ومعه حتى الحيوان ،تماما كما بات يعرف في عصرنا بالحرب الجرثومية أو البيولوجية التي حرمتها ظاهريا جميع الدول الواعية بانعكاساتها ولم تشذ عنها إلا ذوات النزعة الإبليسية الماكرة في الظلام ، والتي غرضها الوحيد هو الهيمنة وبث الرعب في النفوس والسيطرة القهرية على العالم من أجل السلب والنهب والقتل والفجور...

وهذه الخطط الرئيسية كما يذكر ابن خلدون لا تكاد تخرج عن وجهين متناقضين بحسب طبيعة المكان ونفسية المقاتلين ونوعية قتالهم سواء عند المهاجمين أو المدافعين، إذ التناسب ينبغي أن يكون حاضرا عند كل معركة على مستوى التضاريس وعدد الجنود وكفاءاتهم ومراتبهم وآلات الحروب الدفاعية منها والهجومية وما إلى ذلك.

هذان الوجهان كما كانا في القديم هما:"نوع بالزحف صفوفا ،ونوع بالكر والفر .أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم.وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب.

وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر ،وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف،وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة،ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما.فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو،لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد،لا يطمع في إزالته.وفي التنزيل:" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ".أي يشد بعضهم بعضا بالثبات".

فالقتال صفا يقتضي وجود قوة متناسبة وعزيمة على الصمود وغطاء جوي وبري للصفوف المتقدمة بوسائل الرماية من سهام وقذائف وصواريخ بحسب مصطلح العصر.ولهذا فقد تتكافأ القوى ويتقارب العدد والعدة فيكون النصر من حيث الظاهر أقرب إلى أهل الصفوف المتراصة منها إلى ذات الفجوات والاختراقات ولو كانت عديدة وزائدة.

وبما أن الإسلام قد بعث رسوله في أمة عربية عند الابتداء فلم يتركها تأخذ خطط الكر والفر عادة وذلك لكي تكتسب هيبة الدولة وهيبة الجيش والحاكم،لأن الكر والفر قد يكون من ضعف طارئ على بعض نقاط المعركة،والدولة القوية لا ينبغي أن تلجأ إلى هذا إلا عند وقوع فجوات في صفوف جنودها، بعيدة عن ساحة المعركة الرئيسية .بحيث لو اقتصرت الإستراتيجية الحربية على ما كانت عليه عند العرب في الجاهلية فإن هذا النوع من التكتيك سيكون بمثابة مغامرة غير مضمونة العواقب عند مواجهة القوات النظامية وذات الإمكانات اللوجستية والعسكرية القوية والمحسوبة، وهذا ما ذهب إلى تفضيله ابن خلدون بقوله:"وأما قتال الكر والفر فليس من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف.إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافا ثابتا يلجأون إليه في الكر والفر،ويقوم لهم مقام قتال الزحف...".

وهاتان الإستراتيجيتان قد وظفهما المسلمون الأوائل في عهد النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك عند غزوة مؤتة خاصة، بحيث لما شعر القائد خالد بن الوليد بقوة ضغط العدو وتماسك صفوفه وعدته وعدده لجأ إلى مسلك التمويه بإثارة الغبار وتغيير مراكز المقاتلين لإيهام العدو بوصول الدعم إليه بعدما كاد يقع في مأزق وحرج،مما أدى بالعدو إلى الإحباط النفسي والخذلان واختلال الصفوف .ثم بعد هذا الإجراء لجأ خالد إلى عملية الانسحاب الآمن مع الحفاظ على أرواح المقاتلين وضمان النصر الجزئي.

ولما عادوا إلى المدينة بدأ النقد لهذه الإستراتيجية فجاء الرد من النبي صلى الله عليه وسلم كما يذكر التاريخ:" ولما وصل خالد إلى المدينة، أخذ بعض المسلمين في عتاب من فر في بداية المعركة، فخشي أولئك من غضب الله ورسوله حتى هموا أن يركبوا البحر، ثم قالوا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتوه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟ فقالوا: نحن الفرارون فقال: «لا، بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين».

بحيث إن القدرة على المراوغة والمجازفة ليست في متناول كل من يحمل السلاح وإنما هي خاصية قد يتمتع بها بعض الضباط دون غيرهم،هذا مع علمهم بالواقع الجغرافي والإستراتيجي لمواقع المعارك والسرادب والحفر والأنفاق وما إلى ذلك.حتى قد يستعمل هذا الأسلوب في حروب الاستنزاف والفدائية وحروب العصابات وما شابهها.

ومع هذا فهل إذا توفرت كل هذه المعطيات والإستراتيجيات قد تكون هي الحاسمة في الحروب والمؤدية إلى الانتصارات؟هذا ما قد نبينه في الدراسة القادمة إنشاء الله تعالى وبه النصر والتأييد.



محمد بنيعيش