لا يغيب عن القائمين على الشأن القضائي بالمحاكم، سواء على المستوى المركزي أو المحلي، ما بات يعرف بمعضلة اكتظاظ "قضايا الشيكات" المسجلة لدى مكاتب التحقيق بمختلف محاكم الدرجة الأولى، والمحالة عليها من أجل التحقيق فيها بسبب عدم العثور على الساحبين للشيكات موضوعها.

ونتيجة للبحث عن حل لهذه المعضلة، رشح رأي في فقه القضاء يذهب إلى إمكانية تصفية هذه القضايا عن طريق إصدار قضاة التحقيق لأوامر تقضي بإلقاء القبض على المتهمين فيها، بعد استنفاذ الشروط القانونية المقررة في المادة 154 من قانون المسطرة الجنائية، ثم استتباعها بأوامر تقضي بالإحالة على المحكمة من أجل محاكمتهم طبقا للقانون، مع إبقاء أوامر إلقاء القبض سارية المفعول والنفاذ إلى حين تنفيذها وعرض المتهم في حالة اعتقال على المحكمة من أجل محاكمته طبقا للقانون.

ولعل مستند هذا الرأي، هو ما نصت عليه الفقرة الرابعة من المادة 156 من قانون المسطرة الجنائية، التي جاءت كالتالي: "إذا ألقي القبض على المتهم بعد أن تخلى قاضي التحقيق عن القضية بإحالتها إلى المحكمة المختصة، تعين في جميع الأحوال على وكيل الملك أو الوكيل العام للملك للدائرة التي ضبط فيها المتهم أن يسأل هذا الأخير عن هويته، وأن يشعره علاوة على ذلك، بأنه يمكنه أن يتلقى منه تصريحاته، وأنه حر في عدم الإدلاء بأي تصريح. وينص على هذا الإشعار في المحضر".

وإذا كانت دلالة مفهوم هذا المقتضى توحي بموافقة الرأي أعلاه لصحيح القانون، وأن لقاضي التحقيق بالمحاكم الابتدائية مُكنة إصدار أمر بالإحالة على المحكمة مع بقاء أمره القاضي بإلقاء القبض على المتهم ساري المفعول، ويتعين تنفيذه حتى ولو تم تخليه عن القضية لفائدة المحكمة المختصة. غير أن الحقيقة غير كذلك، وبيانها من عدة وجوه:

أولها: أن هذا الرأي لا يستند على أي دليل من القانون، ذلك أن لا جواب في قانون المسطرة الجنائية عمَّن سيقرر في وضعية المتهم الذي ألقي عليه القبض تنفيذا لأمر قاضي التحقيق، مع أن القضية قد أحيلت على المحاكمة، وأن كل ما هنالك هو مضمون الفقرة الأخيرة من نفس المادة أعلاه، والتي تنص على إحالة محضر التحقق من هوية المتهم الذي ألقي عليه القبض على النيابة العامة بالمحكمة المختصة لا غير، قائلة: "يتعين على وكيل الملك أو الوكيل العام للملك داخل أربع وعشرين ساعة أن يوجه هذا المحضر إلى النيابة العامة لدى المحكمة المختصة".

بيد أن هذا الإشكال يَدِق كثيرا إذا علمنا أن مفهوم الأمر بإلقاء القبض، وبحسب تعريف المادة 154 من قانون المسطرة الجنائية، هو: "الأمر الصادر للقوة العمومية بالبحث عن المتهم ونقله إلى المؤسسة السجنية المبينة في الأمر حيث يتم تسلمه واعتقاله فيها"، ومعلوم أن مدة هذا الاعتقال محددة في ثمان وأربعين ساعة على الأكثر، حيث يتوجب على قاضي التحقيق استنطاقه خلالها والتقرير في وضعيته من حيث إيداعه في السجن أو مواصلة إجراءات التحقيق معه في حالة سراح أو بوضعه تحت المراقبة القضائية (المادة 156 من نفس القانون).

وهذا مما لا سبيل معه لاجتراح التساؤل التالي: من هي الجهة التي ستتولى التقرير في وضعية المتهم الملقى عليه القبض ؟

ثانيها: أن قانون المسطرة الجنائية خلو من أي مقتضى يشير إلى تعيين الجهة التي يمكنها التقرير في إيداع المتهم بالسجن، وتقديمه إلى المحكمة المحالة إليها من قبل قاضي التحقيق.

رب معترض على هذا المعطى يقول: إن وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية المختصة للبت في القضية، هو من له صلاحية إيداع المتهم في السجن بعد إلقاء القبض عليه تنفيذا لأمر قاضي التحقيق. وهو ما لا يستقيم ومنطق نصوص القانون المذكور ؛ ذلك أن وكيل الملك لا يصدر أمرا بإيداع مشتبه فيه بالسجن، بصفة حصرية، إلا في حالتين اثنتين نص عليهما المشرع في المادتين 47 و74 من قانون المسطرة الجنائية، وليس منهما الحالة موضوع الرأي محل هذه العجالة، وهما: إذا تعلق الأمر بحالة التلبس بجنحة معاقب عليها بالحبس، أو إذا تعلق الأمر بغير حالة التلبس، ولكن المشتبه فيه اعترف بالأفعال المكونة للجريمة، أو ظهرت أدلة قوية على ارتكابه لها، مع انتفاء ضمانات حضوره، أو ظهر أنه يشكل خطرا على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال.

ثالثها: أن إلقاء القبض على المتهم والحالة هذه، ثم إصدار وكيل الملك أمرا بإيداع هذا الأخير في السجن وتقديمه إلى المحاكمة في حالة اعتقال، ينطوي على حرمان الشخص موضوعه من الحق في الحرية، مما يتوجب معه أن يكون هذا الأمر واقعا ضمن الحالات المنصوص عليها في القانون، ومسيجا بالإجراءات المنصوص عليها فيه، احتراما لمبدأ "الشرعية الإجرائية" من جهة، ولمقتضيات الفصل 23 من الدستور الذي ينص على أنه: "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون" من جهة أخرى، وهو ما نعدمه في الحالة موضوع هذا التعليق ؛ إذ إنها لا تدخل البتة ضمن الحالتين المقررتين حصرا في المادتين 47 و74 أعلاه، وليس هناك في قانون المسطرة الجنائية ما يسندها، لا منطوقا ولا مفهوما.

رابعها: أن الغاية الأساس من سَنِّ مُكنة إصدار قاضي التحقيق للأمر بإلقاء القبض على المتهم، هي ضمان حضور هذا الأخير لإجراءات التحقيق الإعدادي عندما يكون في حالة فرار أو خارج التراب الوطني، وليس المثول أمام المحكمة المحالة إليها القضية. ولا أدل على ذلك من أن المشرع حصر المراقبة والإشراف على عملية إلقاء القبض في مؤسسة قاضي التحقيق نفسه، وهو ما نصت عليه صراحة الفقرتين الأولى والثانية من المادة 142 من قانون المسطرة الجنائية بقولهما: "يمكن لقاضي التحقيق في القضايا الجنائية أو الجنحية أن يصدر حسب الأحوال أمرا بالحضور أو أمرا بالإحضار أو أمرا بالإيداع في السجن أو أمرا بإلقاء القبض. تتم هذه العمليات تحت إشرافه ومراقبته".

وإذا عُلم هذا مما تم الاستدلال به على عدم قانونية الرأي أعلاه، فلا غرو من التساؤل عن الفائدة التي دفعت المشرع إلى النص في الفقرة الرابعة من المادة 156 المشار إليها آنفا على مكنة تخلي قاضي التحقيق عن القضية، وإحالتها على المحكمة المختصة، مع إبقاء أمره بإلقاء القبض ساري المفعول ؟

يمكن القول، جوابا عن هذا التساؤل، أن استِنان هذه المُكنة التشريعية كان بهدف احتواء وضعية قانونية أخرى غير تلك التي ذهب إليها الرأي موضوع هذا المناقشة، وهي المندرجة ضمن إجراءات "المسطرة الغيابية" أمام غرفة الجنايات، وتوضيح ذلك من زاويتين اثنتين:

أولاهما: أن الفقرتين الأولى والثانية من المادة 453 من قانون المسطرة الجنائية تنصان صراحة على ما يلي: "إذا سلم المحكوم عليه غيابيا نفسه للسجن، أو إذا قبض عليه قبل سقوط عقوبته بالتقادم، يقع اعتقاله بموجب الأمر المنصوص عليه في المادة 443 أعلاه. يسري نفس الحكم إذا ألقي القبض على المتهم الهارب، أو قدم نفسه ليسجن، قبل صدور الأمر بإجراء المسطرة الغيابية وبعد صدور قرار الإحالة".

ثانيتهما: أن الأمر المشار إليه في هذه المادة، والمنصوص عليه في المادة 443 من نفس القانون، هو الأمر القاضي بإجراء المسطرة الغيابية في حال تعذر إلقاء القبض على المتهم بعد إحالة القضية على المحكمة من طرف قاضي التحقيق، على أن يتضمن هذا الأمر أمرا قضائيا جديدا بإلقاء القبض عليه، بدليل نص المادة نفسها، والتي جاءت كما يلي: "إذا تعذر القبض على المتهم بعد الإحالة أو إذا لاذ بالفرار بعد القبض عليه أو إذا كان في حالة الإفراج المؤقت أو الوضع تحت المراقبة القضائية، ولم يستجب إلى الاستدعاء بالمثول المسلم إليه، فإن رئيس غرفة الجنايات أو المستشار المنتدب من طرفه يصدر أمرا بإجراء المسطرة الغيابية. (..). يشير هذا الأمر، زيادة على ما تقدم، إلى هوية المتهم وأوصافه وإلى وصف الجناية المتهم بها، وإلى الأمر بإلقاء القبض عليه".

وترتيبا على ما سلف، وإعمالا لقاعدة تكامل الأدلة والجمع بينها، نخلص إلى ما يلي:

أولا: إن مُكنة تخلي قاضي التحقيق عن القضية بإحالتها على المحكمة المختصة، مع إبقاء أمره الصادر بإلقاء القبض على المتهم ساري المفعول، طبقا للفقرة الرابعة من المادتين 156 و453 من قانون المسطرة الجنائية، لا تقوم لها قائمة إلا في مادة الجنايات حيث قابلية تطبيق المسطرة الغيابية؛

ثانيا: إن هذه المسطرة، وإن نظمت الحكم الواجب تنفيذه في حق المتهم الذي ألقي عليه القبض قبل صدور الأمر بإجراء المسطرة الغيابية وبعد صدور قرار الإحالة، طبقا لمقتضيات المادة 453 أعلاه، إلا أنها لم تعين الجهة التي ستتولى التحقق من هويته وإشعاره بحقوقه المنصوص عليها في المادة 66 من ذات القانون، وهو ما تكلفت به المادة 156 أعلاه، حيث حددتها في وكيل الملك أو الوكيل العام للملك للدائرة التي ضبط فيها المتهم، على أن يوجها المحضر المنجز بذلك إلى النيابة العامة لدى المحكمة المختصة داخل أربع وعشرين ساعة.

ثالثا: إن إدراج هذه المادة الأخيرة لمؤسسة وكيل الملك المختص في الجنح، إلى جانب مؤسسة الوكيل العام للملك المختص في الجنايات، يعتبر من قبيل "اللَّغو" التشريعي الذي قد يقع فيه المشرع بين الفينة والأخرى، لا سيما وأن قانون المسطرة الجنائية خلو من أي قرينة قانونية تسوغ هذا المنهج وتُصَوِّبه.

وجمّاع ما تقدم ولازمه، أن مُكنة إصدار أمر بالإحالة على المحكمة من طرف قاضي التحقيق بالمحاكم الابتدائية، مع بقاء أمره القاضي بإلقاء القبض على المتهم ساري المفعول، ويتعين تنفيذه حتى ولو تم تخليه عن القضية لفائدة المحكمة المختصة، غير متاحة له من الناحية القانونية، وأن من شأن إعمال ذلك الإفضاء إلى خلق وضع قانوني مربك سواء للمحكمة المحالة عليها القضية أو حتى للنيابة العامة لديها، طالما أن المشرع لم يحدد الوضعية القانونية للمتهم الذي ألقي عليه القبض بعد الإحالة، كما لم يعين الجهة التي ستأمر بإيداعه في السجن، خلافا لما عليه الأمر في مادة الجنايات وفق ما تقدم.

عبد الرزاق الجباري