تعتبر مسألة الاستواء على العرش من أهم القضايا التي خاض فيها علماء الكلام والسلفية والفلاسفة على حد سواء،وأدلى فيها كل برأيه، إذ اعتبرها البعض من المتشابه أما البعض الآخر فقد اعتبرها من المحكم وفسرها على ظاهرها لغة وهكذا...وهي بهذا تمثل مختبرا للمناهج التأويلية وتطبيقاتها على أعلى مستوى وأدقه،بل هي محور العقائد والفلسفات ،ولم لا حتى السياسات لارتباط مفهوم العرش بالحكم والتدبير والمحاسبة؟ !!!

1) التطبيقات المنهجية بين الالتزام والتأرجح

تمشيا مع المنهج التأويلي الذي التزم به الغزالي والشروط التي اشترطها عند التأويل، كما مر بنا ،سنراه يوظفها كلها في تفسيره لمعنى الاستواء على العرش، كما سيتبين لنا مدى تشبثه بمذهبه في هذه المسألة وذلك عبر أطوار حياته الفكرية سواء في كتبه التي ألفها قبل تصوفه أو بعده.

يقول بخصوص هذه المسألة :

"ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش،فإن كل متمكن على جسم والمستقر عليه مقدر لا محالة،فإنه إما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساويا،وكل ذلك لا يخلو عن التقدير،وإنه لو جاز أن يماسَّه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسَّه من سائر الجهات فيصير محاطا به"1.

هكذا إذن يطبق الشرط العقلي في التأويل،وذلك باستعماله حيث أمكنه ذلك وكانت البرهنة به واضحة،لأنه يتشبث بتصديق العقل في برهنته.

من هنا سيذهب إلى التدليل على استحالة استقرار الله تعالى على العرش وذلك بتبيين أن "الاستواء نسبته إلى العرش،ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوما أو مرادا أو مقدورا عليه أو محلا مثل محل العرض أو مكانا مثل مستقر الجسم ،ولكن بعض هذه

النسبة تستحيل عقلا وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة له "2.

فهو لا يعتمد العقل وحده في هذه المسألة ولكنه يعضده بالحجة اللغوية واستقصاء المعاني المختلفة التي يمكن أن يصرف إليها اللفظ،فما وافق الحكم العقلي فيها فهو المراد وينبغي الاعتقاد به،وهكذا فالترتيب في فهم هذه المسألة تكون الأولوية فيه للعقل ثم البحث في اللغة واستعراض أوجه احتمالاتها الموافقة للحكم العقلي حتى يركن إلى صحة هذا الاستنباط .

من هنا فالغزالي يصف من يخرج عن الحكم العقلي بالاستدلال ببعض الألفاظ اللغوية المشهورة دون البعض الأخر بالتطفل على اللغة،نظرا لقصور صاحب هذا الرأي عن الإحاطة بكل جوانب اللغة العربية والمعاني التي يمكن أن تحتملها،وكل ذلك من أجل موافقة برهان العقل وعدم الاصطدام مع استنتاجاته .

فيقول عن هذا: "وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعض الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك،حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها فمن المستحسن في اللغة أن يقال: استوى الأمير على مملكته ،حتى قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف و دم مهراق

ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم : يفهم من قوله تعالى : "الرحمن على العرش استوى" ما فهم من قوله تعالى :" ثم استوى إلى السماء وهي دخان"..."3.

فنراه يطبق قانونه التأويلي مع تحفظ في هذه المسألة،إذ يريد أن يبني تأويله على أسس مقبولة شرعا وعقلا ولغة في آن واحد، وتلك منهجية متكاملة في جوانبها وأبنيتها.

أما بالنسبة إلى ابن تيمية بخصوص تطبيقاته التأويلية في هذه المسألة فقد سلك أيضا منهجه الخاص به،إذ لم يرد أن يعطي تفسيرا لمثل هذه المسائل المتشابهات خلاف ما تحمله لغتها الظاهرية،بل إنه قد تشبث بمبدئه وحاول جهده عله يصمد على ظاهر النص مع نفي التشبيه في آن واحد،وهذه عملية قد تتطلب جهدا فكريا وموقفا جدليا لازما لتقرير هذا المبدأ أمام التيارات التي ترى التأويل في هذه المسألة والاستحالة العقلية في الأخذ بظاهر النصوص كتفسير لغوي محض .

فنراه في مسألة التنزيه يذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى فوق مخلوقاته مباين لهم،جاعلا عمدته في هذا المعتقد: العقل الموافق للسمع،أما فيما يتعلق بمسألة"الاستواء على العرش" فيذهب إلى أن طريق العلم به هو السمع فقط:"وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينه ولا مداخله فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام كقوله : "وسخر لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره"،فيتخيل له أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام،فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها،فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى"4.

في هذه المسألة -أي الاستواء على العرش- نراه يخرج عن قاعدته وهي عدم استقلالية

العقل بالحكم فيها، فيستعمل قياس الغائب على الشاهد،ويورد أمثلة أرضية أو كونية لإثبات إمكان استواء الله سبحانه وتعالى على العرش،ويمثل في هذا القياس بالسحاب المسخر بين السماء والأرض.

لكن هدفه من هذا القياس ليس هو الرد على من يقول بالاستحالة العقلية التي تلزم القول بمفهوم الاستواء على معنى الاستقرار الحقيقي،ولكن مقصوده هو إثبات صفة القدرة لله سبحانه وتعالى،ولا يجعل الحيز أو الجهة من باب الاستحالة على صفاته سبحانه وتعالى.

فالفوقية بارزة في معتقده،وبينونة الله لمخلوقاته من باب الجهة أيضا واضحة،وفي إثبات هذه البينونة أو الفوقية يلتجئ إلى الأقيسة العقلية لإثبات رأيه ، بينما نراه في مواطن أخرى لا يحفل بالعقل في مثل هذه المسائل ، بل إنه يرد على من يقول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه(وهو رأي الغزالي ) فيجعل هذا من باب المستحيلات العقلية.

وإذا رأينا معارضته لد ليل الحدوث عند المتكلمين فسنجده يرمي إلى هذا الهدف ويجعله ممهدا لإثبات رأيه في هذه المسألة،كما يقول : "وكذلك قوله -أي الكلامي- كل ما هو في جهة فهو حادث لم يذكر عليه دليلا،وغايته ما تقدم أنه لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع "5.

هكذا إذن نراه يلتقي والغزالي في مسألة تحكيم العقل في مثل هذه المسائل المتشابهات إلا أن المقدمات التي ينطلق منها كل منهما تختلفان من حيث المنجية في توظيف هذا النظر العقلي أو ذاك.

بعد هذا يمكن أن نتساءل حول ما هي النتائج الصريحة التي توصل إليها كل منهما بخصوص المفهوم النهائي لمسألة الاستواء على العرش ؟.

2) الاستنتاجات الرسمية : (الانضباط والتردد)

إن الحكم في هذه المسألة جد صعب وخطير،ذلك لأنه قد تتداخل المفاهيم لدى كل من الرجلين،والخطأ في استخلاص هذا المفهوم قد يجعلني في ورطة وهي النبش في عقيدة رجلين من أعلام الأمة الإسلامية.

لهذا فسأحاول أن أحترز في استخلاص المفهوم الرسمي لمسألة الاستواء عندهما مبتدئا القول حول مفهوم الاستواء عند الغزالي:

هل كانت له مفاهيم معينة حول هذه المسألة، بمعنى هل أنه قد ادعى حقيقة هذا الاستواء المقابل للاستقرار لغة أم أنه كان نافيا لكل ما يوهم التشبيه والتحيز والمكان ؟ وأي احتمال لغوي لتفسير الاستواء يرفضه ؟.

إنه كمؤمن بالإسلام لم تسمح له نفسه بتخطي النصوص من حيث التصديق بها وأنها هي الحق الذي ما بعده حق وذلك على ظاهرها، لكنه كعالم فقد حق له أن يتقصى المسألة ويعتقد فيها بما هو لائق بالعلماء،نظرا لاستحثاث شرعي محكم يظهر فيه التنزيه لله سبحانه وتعالى واضحا كقوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"،وأيضا لضرورات عقلية مستمدة من الشرع ،ثم إن هناك احتمالات لغوية منها ما يوافق روح النصوص الشرعية والأحكام العقلية ومنها ما لا يوافق هذا أو ذاك في مثل هذه المسألة المعينة.

فإذن لا ينبغي تخطي الشرع ولا إهمال العقل وبالتالي ينبغي استقصاء الوجه الأنسب للمفهوم اللغوي،وهذه معادلة دقيقة وراقية ينبغي التثبت فيها.

فالإيمان بالنص واجب وباللفظة التي ورد عليها، والحكم العقلي يجب اتباعه في فهمه لمضمون النص كما أن اللغة إذا انتقيت وقع الكمال في هذا التأويل وتأكد صاحبه من صحته.

عن هذا نراه يقول في باب التنزيه وحول مسألة الاستواء: "أنه –الله سبحانه وتعلى- مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المُماسَّة و الاستقرار والتمكن والتحول والانتقال،لا يحمله العرش،بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته ،وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات على العرش كما أنه رفيع الدرجات على الثرى،وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد،وهو على كل شيء شهيد،إذ لا يماثل قربه الأجساد..."6.

وفي هذا النص يظهر لنا فهم الغزالي النهائي والرسمي لمسألة الاستواء على العرش، معتمدا فيه على النصوص والتصديق بها كما جاءت وتفويض حقيقة معناها إلى الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت يظهر لنا تشبثه واستقراره على رأيه في رفض مفهوم الاستواء بمعنى الاستقرار أو المماسة نظرا لما يحيله العقل عنده في هذه المسألة.

فلمفهوم الاستواء عنده معنى آخر غير الاستقرار،بحيث يبقى تأويله مفوضا إلى الله سبحانه وتعالى : "وما يعلم تأويله إلا الله".

وفي نفيه تفسير الاستواء بالاستقرار نراه يتشبث بموقفه من هذه المسألة فيأبى إلا أن يبث هذا المفهوم في كثير من كتبه حتى المنطقية منها،وذلك على شكل أمثلة توافق نوعية الموضوع المطروح للنقاش، فيقول في باب القياس من كتاب "محك النظر":

"... و مثاله قولنا: إن الباري تعالى على العرش فهو مقدر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدرا فيكون المقدم محالا، ووجه دلالة هذا أن المؤدي إلى المحال محال،وقول الخصم أنه على العرش مؤدي إلى المحال فهو محال "7.

إن هذا المفهوم للاستواء والتنزيه عموما قد لقي قبولا جيدا عند كثير من الطوائف الإسلامية وعلمائها وارتاحت إليه نفوس الكثيرين،لغاية أن راودت بعضهم بسببه الرؤى والمنامات حوله فاعتبرت عند البعض من أصح المفاهيم العقدية في باب التنزيه 

أذكر من بين هذه المؤيدات ماحكاه السبكي في طبقاته عن الرؤيا التي رآها أبو الفتح عامر بن عامر الساوي بمكة ، وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب المذاهب يستعرضون عليه عقائدهم، فيقول:

"وكان في يدي كتاب مجلد فناديت وقلت يا رسول الله هذا الكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنة،لو أذنت لي حتى أقرأه عليك،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :وأي شيء ذاك ؟ قلت يا رسول الله هو "قواعد العقائد" الذي صنفه الغزالي فأذن لي بالقراءة،فقعدت وابتدأت "بسم الله الرحمن الرحيم ": كتاب القواعد العقائد (وذكر فيه باب التنزيه،ومسألة الاستواء على العرش وتفسيرها... إلخ ) قال : فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والبشر في وجهه صلى الله

عليه وسلم،إذ انتهيت إلى بعثه وصفته.

فالتفت إلي وقال:أين الغزالي؟فإذا بالغزالي كان واقفا على الحلقة بين يديه،فقال :ها أنا ذا يا رسول الله،وتقدم وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم قعد.

قال:فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر استبشارا بقراءة أحد مثل ما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد.

ثم انتبهت من النوم وعلى عيني أثر الدمع مما رأيت من تلك الأحوال والمشاهدات والكرامات "8.

هذا،ويمكن تلخيص مفهوم الاستواء عنده في ثلاث نقاط :

أ) الإيمان بالنص وتفويض مفهومه إلى الله على الوجه الذي أراده ودون إعطائه تفسيرا دنيويا.

ب ) نفي الاستقرار والتماس على الوجه الذي يحيله العقل والذي يتخيل منه التشبيه بالجسمية أو التحيز .

ج) استقصاء المعاني اللغوية الموافقة للشرع في محكماته وكذلك موافقتها لما يتضح للعقل من أحكام قياسية صحيحة.

فإذا رجعنا إلى ابن تيمية والبحث في مفهومه النهائي لهذه المسألة سنرى أنه قد يجعل معتمده في إقرار فهمه للاستواء هو الآية الكريمة : "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، كما هو الشأن بالنسبة إلى الغزالي،إلا أنه لم يسمح بتحميل لفظ الاستواء معنى غير ما هو مشهور عنه ، ألا وهو الاستقرار، ولكن دون معرفة كيفيته،إذ إضافته إلى الله سبحانه وتعالى هي التي تعطيه مشروعيته في التنزيه.

فبمجرد هذه الإضافة فالفارق بين مفهوم الاستواء بالنسبة إلى المخلوقات وبالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى يبقى مستبعدا أي اتصال أو تشابه .

إن هذا الاتجاه عنده في إقرار مفهوم الاستواء على هذا الوجه لم يكن مستقلا به وإنما سلك فيه طريقا لأحد المذاهب الكلامية ورجع إليهم في تعضيد قوله في المسألة،بل إنه دافع عنهم بسبب هذا المفهوم الذي وافقهم فيه:" ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق،لا يفتقر الخالق إلى المخلوق،وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو الغنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه.

فمن فهم عن الكِرّامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم ،كيف وهم يقولون إن الله كان موجودا قبل العرش،فإذا كان موجود قائما بنفسه لا يكون إلا مستغنيا عن العرش "9.

فبسبب ربطه مفهومه بمفهوم الكرّامية قد جعل بعض الباحثين المحدثين ينسبون إليه ميله إلى التجسيم أو التشبيه كما يقول علي سمي النشار : "وقد انتقل التجسيم إلى الكِرّامية كما نعلم وانتقل من الكِرّامية إلى تقي الدين ابن تيمية ومنه إلى السلف المتأخرين "10.

فهل فعلا قد كان ابن تيمية يميل إلى التجسيم أم أن خلفيات مذهبية كانت وراء هذا الادعاء أو ما يشبه الإسقاط؟.

نراه هنا ينفي هذا الاتهام عن نفسه،ملتزما التنزيه في معتقده ومتشبثا بالحفاظ على ظاهر

النص غير مؤول له كما يقول :

"فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقات لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادا،وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر،ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا...

فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه،وليس المنسوب كالمنسوب،ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه كما قال صلى الله عليه وسلم : "ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي"فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي"11.

إذ هنا قد يظهر نوع اختلا ف بين الرجلين في نسبة الاستواء: هل لله؟ وهو رأي ابن تيمية،أم للعرش؟وهو رأي الغزالي كما مر بنا.

أرى أن ابن تيمية حينما فسر الاستواء بالاستقرار مع نسبة هذا الاستواء إلى الله سبحانه وتعالى ليبنى عليها معتقده قد أغفل جانب المستوى عليه،وإذا بيناه باعتباره مخلوقا فهناك ستصبح المسألة جد معقدة ،نظرا لضرورة التنزيه الشرعي ولما يتطلبه الحكم العقلي في هذه المسألة.

إذ أن المستوى عليه مخلوق،وهو محدود مما سيجعل من المحال أن يكون الله مستقرا عليه بالمفهوم اللغوي الأرضي،لهذا فيجب تحوير هذا المفهوم والبحت عن معناه المناسب الذي يوافق التنزيه المحكم ويوافق في نفس الوقت الحكم العقلي الصريح.

من هنا يمكن تلخيص مفهوم الاستواء عنده في التالي :

أ) إن الاستواء قد وقع فعلا وبالمعنى الذي يحمله اللفظ مع الميل بالنظر إلى أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم وله جهة عليا.

ب) إن هذا الاستواء رغم وقوعه وتفسيره بالاستقرار فإنه يبقى منزها ولا شبه مطلقا بينه وبين الاستواء عند المخلوقات ولكن من دون مراعاة لدليل الحدوث ولوازمه العقلية،إذ لازم المذهب مذهب كما كان يصرح به ابن تيمية كثيرا.

ثم إن مفهوم العرش رغم أنه مخلوق ومحدود قد يبقى مسألة غيبية إلا أنه مع ذلك لا يمكن أن يحكم من خلاله على إمكان هذا الاستواء أو عدم إمكانه من الناحية العقلية .

ج ) إن هذا الاستواء مضاف إلى الله وليس إلى العرش.

لهذا،فما أضيف إلى الله يبقى أمره كنسبة ذات الله إلى ذات المخلوقات "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".

نستخلص من هنا أن الغزالي وابن تيمية قد لا يختلفان في وقوع الاستواء،لكنهما قد يفترقان حين تفسيره وتطبيق المنهج التأويلي لكل منهما في مجاله.

فالأول يلتمس له معنى في اللغة يوافق الحكم العقلي في نفي التشبيه والآخر يفسره بالاستقرار ولكن في نفس الوقت يبقى على التنزيه حسب تصوره.

كما أن إضافة الاستواء إلى العرش عند الغزالي وإلى الله عند ابن تيمية قد كانت وراء هذه الاختلافات الجانبية التي رأيناها من خلال عرض فهمهما للمسألة،فهذه النسبة ستكون عند

التحقيق هي الحاسمة، والله الهادي إلى طريق الحق والصواب.



محمد بنيعيش