بات الصِراع بين راشد الغنوشي رئيسُ مجلس النواب وقيس سعيد رئيس الجمهورية، واضحا وموضوعَ الشارع التونسي قبل النُخبة رغم انكارِ جُل القيادات النهضوية الإسلامية لذلك،مصوريه على انه مجرد اختلاف في وجهات النظر لا أكثر.

شجرةُ الاختِلاف التي قد تُخفي غابةَ الصراعات الوجودية بين الرئاسيتين بلغ مداهُ حين قرّر رئيس الدولة وحسب تأويله لكلمة "الأقدر" في الدستور، رفض الأسماء الأكثر تداولا لترشيحات الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية واختياره لإلياس الفخفاخ المرشح من حزب وحيد وهو حزب رئيس الحكومة المتخلي تحيا تونس.

إذن هو ليس اختلاف بسيط في وجهات النظر كما يُروَج له، لأن اجتهاد رئيس الدولة في تأويل بعض فقرات الدستور في اكثر من مناسبة قد سحب بِساط المبادرة من حزب النهضة التي لم تنجح في تمرير رئيسٍ للحكومة من صفها في مرحلة أولى ثم قريبٍمنها في مرحلة ثانية، مما ضيّق هامش تحركاتها السياسية، بل ان قيس سعيد عبّر في عديد المناسبات سواء خلال حملته الانتخابية او بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عن امتعاضه من الناظم السياسي الحالي القائم على تشتت محاور الحكم بين الحكومة و البرلمان و الرئاسة وهو تشتت كاد ان يعصف بالتجربة الديموقراطية برمتها فترة حُكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في قلب الصراع بينه و بين رئيس حكُومته آنذاك يوسف الشاهد.

لم يترك قيس سعيد الفرصة كي يذكر رئيس مجلس النواب، والحال أننا في نظام شبه برلماني، بأنه الرئيس الوحيد للبلاد نافيا وجود ما يسمى بالرئاسيات الثلاث. رد الغنوشي كان سريعا الذي ذكره بأن زمن الحكم الفرد الواحد قد انتهى دون رِجعة.

ذكرنا بهذه المحطات لنؤكد بانها قضية صراع في العمق بين السلطات قد تذهب الغلبة فيها الى تغيير النظام السياسي القائمو المحبب لدى النهضة في حال تمكن رئيس الدولة من فرض رؤيتهالسياسية لنظام الحكم. لذا فإن رئيس مجلس النواب و من خلفه حركة النهضة سارعت بتحديد موعد لإنتخاب أعضاء المحكمة الدستورية ربما لقطع طريق التأويلات الدستورية مستقبلا على رئيس الدولة و كبح جماح ارادته في الاستفراد بآلية الاجتهاد و التأويل و التقرير.

تأخر ارساء المحكمة الدستورية، لأكثر من اربع سنوات في حين كان من المفترض بحسب نص الدستور ان يتم ارساءها سنة فقط بعد الانتخابات التشريعية الماضية. غير ان انعدام الثقة بين الفاعليين السياسيين الى جانب الصراع الإيديولوجي الذي شق صفوف الأحزاب بعد الثورة حال دون انتخاب أعضاءها.

رغبة النهضة الآن في حصر حدود صلاحيات رئيس الجمهورية ورد مبادرة الإختيار و التقرير الى مجلس النواب قد تدفع بيها، خلافا للعهدة النيابية الماضية، الى تقديم بعض التنازلات بخصوص الأسماء المرشحة التي كانت تعتبرها "معادية" و التي تنتمي لما يسمى بالعائلة التقدمية الديموقراطية فرهان البقاء والتحكم في خيوط اللعبة اكبر من التمسك برفض بعض المرشحين.

ستتحول المعركة القادمة إذنن مطلع افريل الى ساحة المحكمة الدستورية وهي المعركة الأخيرة في تحديد صلاحيات الرئاسيات الثلاث و مجال تدخلها، اذ أنّ اختيار الإثني عشر عضوا بين مجلس النواب و رئيس الجمهورية و المجلس الأعلى للقضاء، اربع أعضاء لكل جهة، يكون أولا حسب الكفاءة و النزاهة و نظافة اليد لكن أيضا و للاسف سوف تدخل فيها حسابا الولاء و القرب الإيديولوجي حتى و ان كنا في حضرة المحكمة الدستورية العليا.

لمن ستكون الغلبة أخيرا، لرئيس مجلس النواب او لرئيس الدولة او لتونس و لمستقبل ديموقراطيتها؟ هذا هو السؤال. ننتظر لنرى.