تجاوزت آثار فيروس "كورونا" الجديد الجوانب الصحية والبيئية كما هو الحال مع أكثر الأمراض، لتصيب جوانب أخرى تتعلق بحياة الناس في هذا الكوكب، وكان للفيروس القاتل الذي أعطي اسم "كوفيد – 19" آثار سلبية على الأوضاع السياسية في البلدان التي ظهر فيها، كما أثر على علاقاتها السياسة مع محيطها الإقليمي، وألقى بظلاله على العلاقات الدولية ككل خلال الأسابيع الماضية.

ففي الداخل الصيني، أدى انتشار المرض الكبير إلى تصاعد المعارضة الداخلية ضد الحزب الشيوعي الصيني فيما يتعلق بتقصير الإدارات الحكومية في تطويق المرض قبل انتشاره من جهة، وبسبب عمليات التكتيم وحجب المعلومات التي تتهم الحكومة الصينية بفرضها من جهة أخرى، الأمر الذي أدى لمخاوف لدى الصينين من كون حجم الانتشار والإصابات والوفيات هو أضعاف المعلن عنه، وفتح المجال أمام الشائعات والأخبار الغير معروفة المصدر فيما يتعلق بالداء وآثاره.

وكذلك يمكن لاستمرارية المرض بوتيرة عالية في البر الصيني أن تؤثر على جهود الحكومة الصينية لمزيد من الإدماج لجزيرة هونغ كونغ التي تشهد منذ شهور موجة احتجاجات كبيرة ضد الصين والحكومة المحلية التابعة لها، بحيث تدفع الأمور إلى تبني سكان الجزيرة توجهات انعزالية أكبر عن الصين، من حيث تقليل زياراتهم وارتباطاتهم بها، والتضييق على حركة الصينيين إليها، تجنبا لتفشي المرض فيها.

وفي جوارها، تكبدت الصين تكاليف كبيرة لمد أذرعها الاقتصادية المختلفة، ووظفت استثمارات كبيرة لضمان ذلك، وخاصة في مجالات الطرق والموانئ، وشبكات نقل الطاقة المختلفة، ولا شك أن حالة الخوف من انتشار المرض مع العمال والموظفين الصينيين القائمين على تلك الإنشاءات الضخمة من شأنه أن يعرقلها بعض الشيء مؤقتا على الأقل.

وهكذا بالنسبة لسياسة الانفتاح والامتداد الصينية في الخارج، والقائمة على نشر السكان الصينيين والمشاريع الاقتصادية في مختلف دول العالم، بما يفتح المجال لامتداد النفوذ الصيني وتوسعه بشكل موازي لامتداد وتوسع خططها الاقتصادية الخارجية، فيما يعرف بسياسة "الطريق والحزام"، وذلك بسبب تخوف الدول حول العالم من التواجد الصيني، وتقييدها حركة السفر والتجارة مع الصين، وهذه التأثيرات تتعلق بمدى انتشار المرض داخل الصين، واستمرار اعتبارها بؤرة امتداده في العالم، وهو ما بات يتراجع نوعا ما، لا لتحسن الوضع داخلها، ولكن لتولد بؤر جديدة للمرض، يخشى أن يقوى فيها تأثيره وتمتد العدوى منها إلى مناطق أخرى، كما في حالة كوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا، على سبيل المثال، مما يخفف من التركيز على الصين كمنشأ له.

وهكذا فإن مشكلة العزل للدول التي يتفشى فيها الوباء تمتد خارج الصين، لتفرض عليها إجراءات قاسية، من قبيل إغلاق الحدود عنها، وتضييق حركة التجارة والسفر منها وإليها، والضغوط على مواطنيها الموجودين في الخارج، كما هو الحال مع إيران.

فبعد انكشاف تفشي المرض في مناطق من البلاد، والإعلان عن وفاة العشرات من المصابين، وفرض الحكومة الإيرانية إجراءات احترازية في عموم المناطق، بدأت الدول المجاورة بالتحسب لأي مخاطر قادمة من إيران تتعلق بنقل العدوى منها بواسطة المسافرين على وجه الخصوص، من قبيل منع سفر مواطنيها إلى هناك، وفرض الفحص الطبي والعزل للمشتبه بإصابتهم لأسابيع، وإغلاق بعض الدول منافذها البرية والبحرية مع إيران، في مشهد أقرب ما يكون للمقاطعة العامة، الأمر الذي سيترك آثارا على السياسة والاقتصاد الإيرانيين.

ولعل أقسى حالات العزل التي تتعرض لها إيران ما يأتي من قبل الدول التي نفوذ كبير فيها، كما في العراق ولبنان، حيث تتعرض الحكومات هناك لضغوط شعبية مطالبة بإغلاق المنافذ البرية، وتقييد حركة المسافرين إلى إيران، في الوقت الذي تشعر فيه الحكومات بالحرج من هذا، واستنكرت الأحزاب الموالية لإيران في البلدين الدعوات لذلك متهمة مطلقيها بتسييس مسألة المرض، في الوقت الذي استمرت الحكومة في دمشق بإرسال الطائرات واستقبال المسافرين القادمين من إيران، معلنة عدم الحاجة لفرض قيود على ذلك، وخاصة في ظل التواجد الإيراني الكبير في سوريا وخصوصا ما يتعلق بمشاركة الحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة له بالحرب الدائرة هناك، ما يعني تأثيرا ممكنا لعمليات الحظر والتقييد على التواصل مع إيران على مسار الحرب بشكل عام.

وفي إيطاليا التي بدأت تعامل من قبل جيرانها على أنها بؤرة محتملة لانتشار المرض منها إلى البر الأوروبي، من حيث مراقبة الدول لحركة السفر إليها، وفحص القادمين منها، فإن الأمر لا زال بعيدا عن فرض إجراءات إقليمية عازلة لها، نظرا لأن حجم انتشار المرض داخل إيطاليا لا يزال محدودا من حيث حجمه، لكون عدد المصابين في حدود العشرات، ومن حيث انتشاره، بانحصاره في بعض المدن الإيطالية غالبا، وكذلك الثقة الأوربية بإجراءات الحكومة الإيطالية فيما يتعلق بجهود تطويق المرض، وبالشفافية في إعطاء المعلومات عنه، وهو ما تفتقده حكومة إيران على سبيل المثال.

ولكن بمجرد اكتشاف حالات مصابة بداء "كوفيد – 19" في إيطاليا ومن ثم في بعض الدول الأوروبية الأخرى، برز اتجاهان من الدعوات فيما يتعلق بالجهود لمنع انتشاره داخل القارة العجوز.

الأول يتعلق بتقييد حركة الوافدين إلى الدول الأوروبية من خارجها، والذين تزداد احتمالية نقلهم للمرض من خلال عبورهم مناطق مصابة به، وخاصة المهاجرين منهم المتهمين أصلا بقابلية تلقي الأمراض المعدية ومن ثم نقلها، بسبب أقامتهم في مخيمات مكتظة بالناس تضعف فيها الشروط الصحية، ومن ثم انتقالهم في ظروف لا تقل سوءا عما كانوا عليه في مخيمات المهربين، ولذا علت الأصوات في الدول التي تعاني سابقا من مشكلات اللاجئين - ولاسيما دول أوروبا الشرقية والجنوبية - لفرض تقييد أكبر على دخول المهاجرين، واستغلت الأحزاب المعارضة المعادية للأجانب مخاوف الناس من المرض في التحريض ضد الحكومات، والدعوة لإسقاطها، لاتهامها بتعريض سلامة تلك البلدان للخطر لتهاونها في مسألة وصول المهاجرين إليها، كما حدث في إيطاليا، مع الحملة التي شنها حزب الرابطة المعروف بمعاداته للاجئين والمهاجرين.

وأما التوجه الثاني فهو يخص الداخل الأوروبي، فمع وصول الداء إلى بعض البلدان، ظهرت دعوات إلى تقييد حركة الانتقال داخل القارة، ما يعني ضبط الحدود بين دولها، وهذه الدعوات وإن كانت ذات مظهر إجرائي طبي، فإنها تدعم توجهات الأحزاب والمنظمات الوطنية اليمينية المعادية للاتحاد الأوروبي وسياسة فتح الحدود وحرية الحركة والتجارة بين بلدانه، وقد قويت هذه الدعوات إبان موجة اللجوء الكبيرة الوافدة لأوروبا قبل سنوات، وذلك لمنع اللاجئين الواصلين إلى أطراف أوروبا من الوصول إلى الدول المركزية فيها، وهكذا فإن انتشار فيروس "كورونا" قد يشكل ضغطا على الوحدة الأوروبية، التي تضعضعت خلال السنوات الماضية، بسبب قوة التيارات المناهضة لها، وتجربة "البريكسيت" البريطانية التي كان من أهم أهدافها عزل الجزيرة عن البر الأوروبي ومشكلاته المختلفة.

وفي الأثر السياسي أيضا، يمكننا أن ندرج نشر وتعزيز الأفكار والاتهامات المتعلقة بنظرية "المؤامرة"، وتقديم مادة دعائية جديدة لها، باستغلال حالة الرهاب العالمية من المرض، والشكوك الكثيرة حول أسبابه، لنشر اتهامات تجاه الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

فقد نشطت وسائل إعلام روسية في الترويج لاتهام الولايات المتحدة بتخليق فيروس "كوفيد – 19" مخبريا كنتاج لعملية تجميع مورثات من عدة فيروسات قاتلة ثم نشر المرض في الصين، كونها تمثل الخصم الأول لأميركا في المجالين السياسي والاقتصادي والمنافس الأكبر لها في الميدان العسكري، واستهداف روسيا أيضا بهذا المرض بسبب جوارها مع الصين.

كما أن بعض الأطراف التي لم تتهم الولايات المتحدة بالتسبب في انتشار فيروس "كوفيد – 19"، لم تمنع نفسها من اتهام أميركا بالوقوف وراء "مؤامرة" لنشر الأخبار المضللة الكثيرة حول الفيروس وانتشاره، لتخلق بذلك الرعب والهلع في بعض البلدن، وتضغط على الحكومات والأنظمة المعادية لها، كما ورد في بعض وسائل الإعلام الصينية، بينما تحدثت حكومة إيران عن "مؤامرة" استهدفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لتستفيد من هذا الادعاء في تبرير عزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات، التي شهدت أقل نسبة إقبال عليها منذ 40 عاما، بحسب وسائل إعلام.

فهذه بعض الآثار السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، لفيروس "كورونا" الجديد، المسمى "كوفيد – 19"، والتي أمكن رصدها خلال الأسابيع الماضية، ويحتمل ظهور آثار أخرى في الأيام القادمة في حال استمرار المرض في الانتشار وزاد حجم الإصابات به في مختلف البلدان.

فائق الحسن