مشروع تغيير "الحال اللبنانية" لا يزال قائما. لم يقض عليه تأليف الحكومة وهي ليست جزءا من التغيير، ولا إلهاء اللبنانيين بهموم جانبية وهو جزء من إجهاض التغيير، ولا تبعثر الانتفاضة الشعبية وهو مقصود لتعطيل التغيير، ولا صفقة القرن وحرب إدلب ومصالحة طالبان وفيروس "كورونا" وهي جميعا تعزز السير بالتغيير.

إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية تأتي أيضا في سياق التحولات الكيانية والدستورية في الشرق الأوسط، لا في سياق محاربة الفساد في لبنان فقط. هذا شعار أخلاقي ومالي محلي يلطو وراءه مشروع التغيير السياسي والدستوري والديمغرافي الجارف دول المنطقة وأنظمتها وشعوبها بأكثرياتها وأقلياتها. وخطورة هذا المشروع الدولي - وهي حسنته في آن معا - أنه قابل التعديل حسب تبدل موازين القوى والتحالفات والعلاقات مع مراكز القرار. هذه فرصة للبنان إذا وجد قادة يطرحون قضيته. لكن... أي قادة بقوا؟ وأي قضية بقيت؟

قبل مشروع واشنطن في الشرق الأوسط الكبير ونشر الفدرالية بديلا من نشر الديمقراطية، وقبل انتقال الصراع الأميركي/الإيراني إلى لبنان، يطالب اللبنانيون بالتغيير في بلادهم في ضوء بروز ثغرات في الدولة المركزية. لكن الولايات المتحدة، بدعمها الشعب اللبناني في نضاله من أجل مستقبل أفضل، لم توفر له ظروف نجاح انتفاضته. فمن جهة تشجع الانتفاضة الشعبية، ومن جهة أخرى تحاصر لبنان بشكل يفقر الشعب ويمنع عنه لقمة العيش. فالواضح أن العقوبات الأميركية، المالية والمصرفية والاقتصادية على حزب الله انعكست على جميع اللبنانيين من خلال رد حزب الله على أميركا. إن الضيقة تولد اضطرابات لكنها لا تحدث تغييرا، خصوصا أن مفهوم واشنطن للتغيير في لبنان لا يلتقي بالضرورة مع التغيير الذي يطمح إليه اللبنانيون.

معيار التغيير بالنسبة لأميركا هو احتواء حزب الله والحد من دوره وتأثيره، ومغفورة خطايانا الباقية. فواشنطن تعتبر أن سيطرة حزب الله على الدولة هو مصدر الفشل والفساد والهدر وسوء الحوكمة، وأن مجرد تحجيمه كاف لتغيير الوضع اللبناني وعودة الحياة الطبيعية. لكن واشنطن تتغافل عن أمرين: الأول، أن الفساد لا يقتصر على حزب الله، بل صار شبكة عنكبوتية تضم أيضا أطرافا صديقة لأميركا ولدول الخليج. والآخر، أن القضاء على الفساد لا يلغي التناقضات الوطنية بين اللبنانيين والتي تستدعي هندسة دستورية جديدة يختلف اللبنانيون بشأنها.

غالبية الشعب اللبناني تلتقي على ضرورة التغيير. شاخ لبنان مع أنه لا يزال شابا. أتعبته الصيغة، بل أتعبه أعداء الصيغة. لكن اللبنانيين مختلفون على نوعية التغيير ومضمونه وحدوده. ما يسعى إليه مكون يسعى إلى عكسه مكون آخر. بعض اللبنانيين يريد تغييرا إصلاحيا في لبنان والبعض الآخر يريد تغيير لبنان. أصبحت العلاجات مؤذية مثل الأمراض. لا يزال التغيير في لبنان مشروع طائفيين وطوائف لا مشروع مواطنين ووطن. هذا الواقع المرير يعيق خط سير التغيير، إذ يخشى أن يصبح التغيير مدخلا إلى انهيار الوطن لا إلى إصلاح الدولة.

مروحة التغيير تبدأ بإصلاحات من داخل الدستور إلى تعديلات من خارجه. هناك من يرجو إصلاحات تحيي لبنان الموجود الذي صنعه آباؤنا وأجدادنا، ومن يحلم بتعديلات تنسف هذا اللبنان وتستهل آخر نقيضا. هناك من يقصد إزالة الهيمنة عن الجميع، ومن يتقصد نقلها إليه ليمارسها على الآخرين. هناك من يأمل ألا يطيح التغيير اتفاق الطائف، ومن يصر على إسقاط هذا الاتفاق. هناك من يريد التغيير إرساء للحياد والعلمنة، ومن يريده تثبيتا للانحياز والتدين السياسي. كأننا عاجزون عن التغيير وعن البقاء في الوضع الحالي. ليست دولتنا هي الفاشلة. نحن، الشعب، أيضا فاشلون.

اللافت أن اللبنانيين، منذ تأسيس دولة لبنان، يطالبون بالتغيير الشامل من دون أن يكلفوا أنفسهم تغيير شيء بسلوكهم. إذ لو فعلوا لوجدوا أن العلة فيهم لا في لبنان، في أهل النظام لا في النظام، في الخروج عن الدستور لا في الدستور، وفي تعددية الولاءات لا في الولاء للبنان فقط. إن فشل الدولة هو في العمق فشل اللبنانيين في احترام قواعد الشراكة الميثاقية. وبقدر ما نصلح ما فينا من سيئات ونحسن سلوكياتنا تبرز حسنات النظام، وتتقلص مساحة التغيير، وتقتصر على إصلاحات الضرورة.

لكن، حين يصبح النأي بالنفس عن فيروس "كورونا" جزءا من الإستراتيجية الدفاعية، وتعجز الحكومة عن اتخاذ قرار تحييده عن اللبنانيين لأسباب سياسية ومذهبية وحزبية، نتأكد من هذا الفشل المخزي، ويصبح حقا شرعيا طرحنا مصير الصيغة اللبنانية المركزية. فإذا اختلفنا على مكافحة الموت فعلام نتفق؟ إن مكونات وطنية تختصم على صون الحياة تختصم على الباقي بما فيه الوطن والدولة.

مؤسف أن نصل إلى هذا المستوى. ومؤسف أن يترك اللبنانيون انطباعا بأن دولتهم ناقصة ووطنهم مرحلي وكيانهم تسوية ونظامهم شر لا بد منه، وأنهم شعب تائه يفتش عن ذاته في العصور الوسطى. في حين أننا شعب عريق ووطن تاريخي وذو هوية واضحة، ودولتا الحديثة تتمتع بجميع البنى الأساسية التي تخولها أن تكون عظيمة في محيطها والعالم. الحقيقة أن اللبنانيين، وهم يرفضون الاعتراف بقيمة دولتهم، يذلون أنفسهم لاسيما لما يروحون يبحثون عن هويتهم خارج تاريخهم ويوالون دولا أخرى لا تتمتع بمميزات لبنان ولا بقيمه ولا بديمقراطيته ولا بحضارته.

إن السيطرة على مصيرنا ومنع الآخرين من أن يقرروا عنا يبدأ باستباق مشاريع التغيير الآتية من لعبة الأمم، فنضع مجتمعين تصورا عصريا جريئا للبنان، عوض أن ندع كل جماعة تضع مشروعها الخاص. فالتغيير الذي نريده هو لقاء جديد لا افتراق.

سجعان قزي