تشخيص النموذج التنموي الحالي يجعلنا نقف على مجموعة من الإكراهات والصعوبات؛ من بينها هجرة الأدمغة، خاصة في صفوف المهندسين والأطباء. إن هؤلاء الأطر تلقوا تكويناتهم في بلدهم المغرب، وهو ما كلف بطبيعة الحال الدولة ميزانية كبيرة لتستفيد البلاد من خدماتهم؛ لكن الكثير من هؤلاء الأطر يفضل الهجرة إلى الخارج لسبب من الأسباب التالية:

-عدم توفر عمل يلائم طموحهم في تطوير مؤهلاتهم وتنمية كفاءتهم.

-ضعف الراتب الشهري والتعويضات قياسا لما هو موجود في الدول الأوروبية.

-الهجرة بعد سنين من العمل في المغرب لأسباب متعددة ربما مرتبطة بالمناخ العام السائد داخل المقاولة والإدارة.

لكن من الخطأ الاعتقاد أن هجرة الأدمغة هي مسألة سلبية تنضاف إلى معوقات التنمية في البلاد. بل عكس ذلك، يمكن للجنة المكلفة بالنموذج التنموي الجديد أن تجعل من هجرة الأدمغة نقطة قوة في النموذج الجديد وفرصة لجعل الأدمغة المهاجرة عاملا أساسيا في توفير وسائل نجاح التنمية في بلادنا. كيف ذلك؟ يكفي أن نعرف كيف جعل النموذج التنموي الهندي من هجرة الأدمغة رافعة لتحقيق التنمية في البلاد ونجح في ذلك بشكل كبير.

قبل ذلك، ينبغي الإشارة إلى أننا نتحدث عن النموذج التنموي الهندي لوجود تقاطع في كثير من النقاط بين المغرب وبين الهند في مجال التنمية. فإذا كان المغرب يعيش لحظة نموذج تنموي استنفد أغراضه ويبحث الآن عن نموذج جديد، فإن الهند عاشت بدورها نفس التجربة، لكن في أواخر القرن الماضي. ففي 1991، كانت الهند على حافة الإفلاس بسبب فشل نموذجها التنموي الذي شرعت فيه منذ استقلال البلاد في 1947 والذي أعده الزعيم نهرو وجعل عنوانه الرئيسي "الاقتصاد الاشتراكي". لتجاوز أخطاء النموذج الأول، قامت الهند بالاعتماد على الكثير من نقاط القوة في اقتصادها، على رأسها العدد الهائل للمهندسين الإعلاميين الذين يتم تكوينهم كل سنة في مؤسسات "المعهد الهندي للعلوم" التي يعود تاريخ إنشائها لسنة 1909 بولاية بانغالور. هؤلاء المهندسون لم يكونوا يجدون في بلدهم الفرص السانحة للعمل وتطوير كفاءاتهم، فكانوا يهاجرون في البداية إلى الدول الأوروبية، ونظرا لتكوينهم الأنكلو-ساكسوني استطاعوا ولوج السوق الأمريكية بكثافة وكانوا من أهم الأطر التي ساهمت في إقامة المدينة الذكية سيليكون فالي التي اشتهرت عالميا في مجال التكنولوجيا الذكية والرقمية. واستفادت الهند من كفاءات هذا الكم الهائل من المهندسين عبر مرحلتين:

مرحلة أولى تجلت في انخراط المهندس الهندي في السوق الدولية، حيث كانت الوجهة في البداية إلى الدول الغربية. وبعد أن أثبت المهندس الهندي كفاءته في هذه السوق، انتقل الآلاف منهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت البداية من ولاية "سيليكون فالي" وساهموا في مشروع مجتمع المعلومات كما هو متعارف عليه في الوقت الراهن والذي كانت الولايات الأمريكية أول من استثمر في هذا المشروع ولا زالت رائدة في هذا المجال على الصعيد العالمي حتى وقتنا الراهن؛ بل أكثر من ذلك برز من بينهم نجوم عالميون في الإعلاميات، استطاعوا الحصول على مسؤوليات تدبيرية في كبريات الشركات العالمية، كما هو الشأن بالنسبة إلى المهندس صابر باهاتيا المؤسس المشارك لمحرك البحث العالمي هوت مايل.

المرحلة الثانية تتحدد في استفادة البلد الأصلي من الخبرات التي راكمها هؤلاء المهندسون، الذين تكونوا في الهند واشتغلوا في السوق الدولية، على ثلاثة مستويات:

- المستوى الأول يخص علاقات المناولة مع الشركات الهندية، لعب فيها المهندس المهاجر دورا رئيسيا.

- المستوى الثاني يتجلى في الاستثمار المباشر في البلد الأصلي الهند.

- المستوى الثالث يكمن في العودة للاشتغال والاستقرار في الهند ونقل الخبرة التي راكمها المهندس المهاجر في البلدان المتقدمة صناعيا، كما حدث مع ساتيان بيترودا الذي دعاه رئيس الوزراء سنة 1984 وكلفه بمهمة الإشراف على السياسة الهندية في مجال الاتصالات.

لكن لا ينبغي إغفال الإجراءات المصاحبة التي أقرتها الحكومة الهندية لإنجاح هذه المبادرة، حيث أنشأت إدارة خاصة بتتبع مشاريع "العقول المهاجرة" ومعالجة المشاكل التي قد تعترض تحقيق هذه المشاريع، علما أن تلك الكفاءات المهاجرة أَلِفَت إدارة مرنة وأسلوبا متقدما في الاستثمار وهو ما لم تصل إليه الهند بعد. لذلك، جعلت الحكومة هذه الإدارة تابعة مباشرة لرئيس الوزراء كي تكون لها النجاعة والفعالية العالية في إنجاز مشاريع تلك الكفاءات المهاجرة وتوفير مناخ جيد لاستقطابها وتشجيعها على الاستثمار في بلدها الأم.

ننتظر من لجنة النموذج التنموي الجديد مثل هذه الأفكار التي تجعل من نقاط الضعف فُرَصا مساعدة على تحقيق التنمية، وأن تجتهد في تفعيل الإجراءات المواكبة التي توفر الشروط الضرورية لنجاح هذه الأفكار والمبادرات. وصدق من قال: "الشيطان في التفاصيل"؛ وهو ما ينقص نموذجنا الحالي بشكل كبير.

سعيد الغماز