لا شكّ أن هناك قوى خفية تسعى إلى تكريس الإقصاء، وتظهر أبشع صوره المدمرة في تفكيك شريحة من المواطنين، أبانت في زمن قريب عن جودة عالية في خصال التماسك الإجتماعي، استطاعت بوسائلها الذاتية أن تصير كثلة مندمجة ودامجة، أسّست لرأس مال بشري، تمّ استغلاله في محطات موسمية أكثر من استثماره على المدى الطويل. هكذا وفي تحايل على قيم العدالة الإجتماعية من مساواة وتكافؤ للفرص، وبتواطؤ مشين مع تمثيليات صورية، عُبِّدت طريق العودة سالكةً أمام المستعمر لاستعادة سطوته بقوة الإقتصاد بدل السلاح.

  بدءا ذي بدء، لنكُن منصفين، لأن ما أقدم عليه السيد العلمي الوزير الأزرق في الإقتصاد الأخضر بخصوص مراجعة اتفاقية التبادل الحر مع تركيا، يعدّ سابقة في هذا النوع من المواقف، ويستحق التنويه، بصرف النظر عن القراءات السياسية التي تلَت مبادرته الشجاعة، لأن أمورا كثيرة إذا ما تقصينا أسباب تعثرها، سنعثر على السياسة بصنفها العبثي ضمن الأسباب الرئيسية لأغلب المآلات السلبية التي تؤول إليها، ولو كانت السياسة تُمارس بشكلها الأخلاقي المبني أساسا على الذكاء الجماعي والقدرة على تسيير الشؤون العامة بشكل فائق النبوغ ،لما ناب عن تركيا مدافعون، كان الأولى بهم أن يتجندوا للدفاع على مصالح الشعب الذي أوكل إليهم مهمة النيابة عنه، إلّا أنهم راحوا يتموقعون لتحديد أو الدفاع عن مصالحهم الشخصية والحزبية في رقع الإتفاقيات، بدل الرجوع إلى موكليهم ومَن صوتوا عليهم من القاعدة لمناقشة أهداف الإتفاقيات بمزاياها وأضرارها، عكس الهرولة إلى المحافل للتوقيع على معاهدات تربط مصير الناس بالمجهول. وهنا مربط الفرس! 

  بديهي أن الشجاعة تقتضي الإعتراف بالخطأ، والخطأ هو عدم إشراك المعنيين بالإتفاقيات قبل تقريرها بجرة قلم، كما تقتضي ذلك الدمقراطية التشاركية! وكَون السيد وزير التجارة قد اعترف بالخطأ، فهذا محفز على تظافر الجهود، لمعالجة ما يمكن معالجته، أو إذا اقتضى الحال، تقرير وقف أيّ اتفاقية تضرّ بمصالح شريحة من المواطنين. ومن هذا المنطلق سَعينا بشكل خاص، ومنذ بداية سريان مفعول اتفاقية التبادل الحر هاته، عبر التنظيمات المهنية التي ننتمي إليها أو عبر الغرف المهنية، وموازاة مع ذلك عبر منصات الصحف بواسطة الكتابة كشكل من أشكال النضال الأدبي لإثارة انتباه الرأي العام وجميع القوى الحية إلى عدالة قضيتنا. سعَينا إلى تحذير المسؤولين من هَول المخاطر التي تحدق باقتصادنا والكوارث التي نجمت عن سلسلة متاجر بيم التركية على مستوى المنافسة. هاته المتاجر التي اعتمدت طرقا ملتوية وتكتيكية في توسّعها، وفي عروضها المشبوهة، وفي ترويض البصر وأبعاده من خلال تصاميم عرضها وتجهيزاتها المُتوسطة والبسيطة، وكذا في التأثير على الأحاسيس وتطبيع السلوك على معايير معيّنة بواسطة إشهاراتها المدسوسة في مسلسلاتها التلفزية الطويلة، ناهيك عن مناورات التقشف المعتمدة في إتاحة فرص العمل للشباب العاطل ضمن التزاماتها المراوِغة! ما أوقَع التجار على إثر ذلك عُرضة لهيمنتها، ويتمثل ذلك في قوتها المالية التي اكتسبتها بفضل الشراء المشترك، الذي تعتمد عليه لنيل أرخص الأسعار، ثم بالتالي الضغط على الشركات المحلية لطمس هوية المُنتِج أو المُصنِّع الأصلي وتعويضها بعلامات بديلة تختارها السلسلة التركية بعناية تتيح لها بالإضافة إلى خصم مصاريف الإشهارات من التّكلفة، بَسط سطوتها على السوق بعد إزاحة المتداول من الأذهان، فضلا عن التحفيزات التي تحظى بها من بلادها الأم، بالمقارنة مع مول الحانوت المغربي الذي انكمش في دكانه، لا تسعفه وحدانيته ولا قدراته المحدودة في مواجهة هذا الغول القادم من الأناضول. والنتيجة أنه أصبح تابعا، لا فاعلا في السوق. بل انطلت عليه الحيلة لضعفه تنطيميا وتوعويا، حتى أصبح يتزاحم مع المستهلكين للإستفادة من عروض هاته المتاجر، وشيئا فشيئا تدهورت كرامته، وتبَخّست رمزيته في محيطه وفق استراتيجية مدروسة ومحبوكة، ما تسبب في إفلاس العديد من أصحاب البقالة الذين كانوا إلى عهد قريب عماد الإقتصاد الإجتماعي، وملجأ غالبية الأسر، لا من حيث توفير فرص الشغل القارة أو المتحركة أو الموسمية، ولا من حيث ضمان التموين من خلال خاصّية كناش الكريدي. 

  خسائر فادحة بأرقام عجزٍ فلكية وجمهور من العاطلين لفظتهم المصانع والمعامل ومحلات البقالة المغربية، الجواب عن كل هذا بشكل واضح لا يتجلى فقط في إفلاس 60 تاجر كلما افتتح بيم متجرا له في الجوار، وإنما أيضا في إفلاس انطلق كالنزيف، ولن يتوقف ما فتئت الشرايين تضخ المزيد من الدماء صوب الجروح المفتوحة!! ففي نظري المتواضع، لا بد من إتمام الخطوة الجريئة التي أقدم عليها السيد الوزير ومن معه، بمراجعة ما يمكن مراجعته، ولكن دون إغفال أن موضوع متاجر بيم ليس فقط مسألة تحديد أعطاب ناجمة عن الإتفاقية، لأجل إصلاحها وكفى! بل الموضوع أكثر من ذلك بكثير، كوننا عندما نترك متاجر بيم حيث هي، ولا نلقي بالا لما تتسبب فيه من كوارث لأصحاب البقالة، ثم نوجه ونرصد اهتمامنا كاملا للمواد التي يجب أن تكون معروضة بالتساوي، 50% مغربية مقابل 50% تركية، على رفوف محلات هي أصلا في وضعية خاطئة، فهذا لعمري يحتاج منا وضع حد للخطأ بحد ذاته، لأن المشهد عندي لا يختلف عن ترك المدفع في مكانه مصوبا إلى قلب قطاع تجارة القرب، والإكتفاء بمراقبة نوعية الذخيرة في ظل منافسة قائمة اكتوى بنيرانها مول الحانوت، وطبعا سيظل هدفا ما لبث المدفع موجودا!! ما يعني أن نجاة مول الحانوت مرتبطة بزوال المدفع من ساحة القتال بشكل نهائي!! أو بمعنى أكثر دقة: "صراع البقاء هذا لن يزول ما لم نحدد لأيّ من طرفيه الغلبة والدوام، أو ندمج الإثنين في منظومة مشتركة"!!

  بالنهاية، فإن مراجعة إتفاقية التبادل الحرّ مع تركيا كمثال، لا يمكن اعتبارها إلا مؤشرا عن بدء مسلسل معالجة الإختلالات، أيّا كان متزعّمها مشكورا. فما يهمنا الساعة هو إعادة الأمور إلى نصابها. إذ ليس في المغاربة عاقل سيقبل على نفسه أن يساهم في تجميد اليد العاملة المغربية مقابل فسح المجال للقوى المالية الغازية كي تصير مهيمنة إلى أبعد الحدود، ولا أدل على ذلك من هيمنة الأتراك التي كادت قاب قوسين أو أدنى من ذلك أن تخترق نواب البرلمان! ما يعني أن النتيجة الحاسمة عن هذا الموضوع بعد اتخاد قرار وقف مثل هاته الإتفاقيات المضرة باقتصادنا، حتما ستخلص قبل كل شيء إلى تحصين صورتنا كدولة ذات سيادة ومستقلة القرار، وهذا لوحده يكفي!!

  خلاصة القول، ونحن على مشارف صياغة النموذج التنموي الجديد وانطلاق البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات، لا شيء يمنعنا من التّحلّي بشجاعة الإعتراف، أن نجهر بالحقّ عرفانا: "نعم هوّ كذلك، تاريخٌ من العطاء المهدور، لبطله مول الحانوت جُنديّ الأزقّة المجهول"!!



الطيب آيت أباه