يحيل مصطلح "سلطة" (pouvoir/ power) أو (Authority/ Autorité) في النسق السياسي والفكري والاجتماعي واللغوي الغربي على معاني "القدرة" و"الاقتدار" و"التدبير" و"التفويض" و"التداول" و"الخدمة" و"القانون" و"التأثير الإيجابي"... وهي التي تبرز على مستوى الممارسة في السلط التقليدية المعروفة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأيضا في السلطة الرابعة (الإعلام)، ولاشك أن هذه المعاني كلها إيجابية وتدل على مستوى النضج الفكري والاجتماعي والسياسي لتلك المجتمعات، وإن كانت لا تخلو بدورها من بعض المنزلقات التي تسيء لتلك المعاني، ولكنها تبقى في عمومها معزولة وغير مؤثرة ولا صادمة في بيئتها.

لكن حين نتأمل المصطلح ذاته (أي سلطة) في نسقنا السياسي والفكر والاجتماعي واللغوي العربي/ الإسلامي، وتحديدا في واقعنا المغربي، فإننا نصدم بضمور هذه الدلالات وتواريها لصالح دلالات "التسلط" و"القهر" و"الاستعلاء" و"الاستغلال" و"الاحتلال" و"الترويع" و"التحكم" و"التمكّن" وهلمّ جرا من المصطلحات التي تمتاح من مادة (س ل ط) كما هي متداولة في المعاجم اللغوية العربية المعتبرة حيث نقرأ فيها على سبيل المثال: (سلِط الشَّخص: سلُط ، طال لسانُه بالكلام وصار جارِحًا / سلَّط الرَّجلَ : أطلق له السُّلطان والقدرة / سلَّطه عليه: مكّنه منه وحكَّمه فيه، وجعل له سُلْطة عليه / السَّلْطُ : الشديدُ / السَّلْطُ : اللسانُ الطويلُ الحادُّ، يَخْشَاهُ الأَقَارِبُ وَالأَبَاعِدُ / السَّلاطةُ: القَهْرُ / تَسَلَّطَ عليه : تحكَّمَ وتمكَّنَ وسَيْطَرَ...).

وهكذا تتم ترجمة هذه المعاني في حياتنا السياسية والاجتماعية ومؤسساتنا التربوية والإدارية وعلاقاتنا الجوارية في كل مستوياتها العليا والدنيا، وبتعابير وتلوينات كلها تؤكد أن السلطة في بيئتنا المغربية هي مرادفة لمعاني التسلط، والحظوة والوصول، وعلو المقام – والجاه، والقوة...:

فالسياسي سواء كان في موقع السلطة التشريعية أو التنفيذية، يمارس سلطته على حساب الناس الذين انتخبوه، ليس على مستوى التشريع والترافع عن قضاياهم في قبّة البرلمان أو على مستوى تدبير شؤونهم العامة في الحكومة، ولكن على مستوى التظاهر بالقوة والشعور بالأفضلية في المجتمع، ولذلك يبيح لنفسه خرق القانون والتطاول على من يسهرون على إنفاذه في المؤسسات أو الطرقات أو في أي مكان، بل إن هذا السلوك لا يقتصر على شخصه وحسب بل ويتعداه إلى أقاربه الصغار والكبار وحاشيته من العمال والسائقين الذين يعملون تحت إمرته، حتى إن بعض تلك الحاشية تبيح لنفسها أن تتسلّط على المواطنين أكثر من تسلّط سيدها!! لا لشيء سوى لأنها تعيش في كنف "الحصانة البرلمانية" والسلطة التشريعية أو تحت غطاء الحقيبة الوزارية ! بل حتى المستشار الجماعي يَتَسَلّط على المواطنين، ليس بخدمتهم والسعي في قضاء مطالبهم، ولكن من خلال الشعور بامتلاك "سلطة التوقيع" أو بمجرد أنه قريب من أولئك الذين يمتلكون تلك "السلطة"!!

وأما رجال السلطة وأعوانهم –خاصة في البادية-فبعضهم ينتشون باللقب أولا، لأنه مقرون بـ"السلطة"، والسلطة في لاشعورهم الباطني وفي سلوكهم العياني وفي مخزونهم المهني المتوارث لا ينبغي أن يخرج عن معنى "الخوف" و"التخويف" و"الابتزاز"... لأن ذلك "يحفظ هيبة الدولة" و"يقوي سلطة المخزن"!!

وفي الفضاءات الإدارية العمومية والخاصة، نجد بعض المسؤولين الإداريين يمارسون تسلطهم على من يعملون تحت إمرتهم لأن "القانون" "يبيح" لهم أن يمارسوا –بشكل قانوني -صلاحيات واسعة في الترقية أو التنحية أو التزكية، لكن هذه الصلاحيات تتحول في كثير من الأحيان إلى أدوات انتقامية وتفرز قرارات مزاجية ظالمة ومتعسفة!!

وفي الفضاء الجامعي، الذي يفترض أن يكون فضاء لممارسة الحرية الفكرية والديمقراطية المعرفية، أو على الأقل لتنفس نسماتها، تجد بعض "رموز العلم والمعرفة" تنتشي بممارسة "سلطة المعرفة" في حق الطالب، من خلال سلوكيات بائدة كفرض شراء "مطبوع المحاضرات" وبأثمنة مبالغ فيه، أو من خلال ما يسمى في لغة الطلبة والباحثين "بالتجرير"، أي التعسف والمماطلة في إقرار ومناقشة البحوث الجامعية والدراسات المختبرية التي ينجزها أغلب الباحثين في ظروف تتسم أصلا بخصاص مادي فظيع، ولكنها تزداد سوءا بأساليب "الابتزاز النفسي" و"التبخيس المعنوي" التي تنالهم من قبل بعض الأساتذة المشرفين على بحوثهم !!

وحتى في العلاقات الاجتماعية العامة تجد بعض الفئات الشعبية يستقوي بعضها على بعض (باعة متجولين – حراس مواقف السيارات – متسولين – عمال الموقف -طالب معاشو...) حيث تجد هؤلاء ومن على شاكلتهم ممن يعانون شظف العيش وقساوة الحياة... يقسون على بعضهم البعض سواء بالعنف اللفظي (سباب وشتم وقذف...) أو بالعنف المادي (ضرب - طرد - إيذاء ...) وتهديد بالمحو من الوجود ، بلا رحمة ولا شفقة وكأنهم أعداء لا ينتمون لنفس الوضع ولا يقتسمون نفس المعاناة!!! وكان الأولى بهم أن يتراحموا ويتعاونوا على الخير، وأن يخفف بعضهم عن بعض قساوة معيشهم اليومي..

وفي مجال النقل العمومي، وخاصة الطاكسيات الصغيرة والكبيرة والحافلات، يلجأ كثير من سائقي هذه العربات إلى التنفيس عن حالات القهر الاجتماعي التي يعيشونها مع أرباب عملهم، والتخفي خلف قناع الفتوة المزيفة والعظمة الموهومة... وذلك بممارسة أبشع أنواع التسلط المادي والمعنوي من خلال سلوكيات التعسف والشطط والتهور والعدوانية تجاه المواطنين والمواطنات الذين يضطرون إلى استعمال تلك الوسائل وتحمل كل أصناف "الإذلال" من هذه الفئة الغليظة الأكباد والجافية الأخلاق من السائقين !!!

ولم تسلم مساجدنا –بدورها- من مظاهر التسلط والتحكم، حيث يعاني كثير من الأئمة والمؤذنين من ثقل الأوامر والتوجيهات وحتى الاستفزازات من طرف بعض الأشخاص ممّنْ لهم فَضْلٌ في الإنفاق على بعض بيوت الله تعالى أو العناية بمصالحها المادية، أو من لدن بعض الأشخاص المتقاعدين الذين كانت لهم سلطة أو مسؤولية في إداراتهم ومؤسساتهم ولم يعد لهم مجال لممارستها إلا في بيوت الله!!!

ويمتد مفهوم التسلط إلى الأسر والبيوت تحت مسمى "القوامة الدينية" أحيانا، ولكن في أحيان كثيرة باسم الأعراف والتقاليد الاجتماعية المتوارثة التي تكرس دونية المرأة وتعلي من مكانة الرجل، ففي الثقافة الشعبية تروج أمثال من قبيل "النهار الأول يموت المش"، وفيه إشارة واضحة إلى ضرورة ممارسة القهر والتسلط منذ بداية الحياة الزوجية بين الطرفين !! ونجد فيها أيضا: "الرجل ولد المرا هو اللي يضرب المرا" وفيه إشارة إلى أن إرضاء الأمهات لا يكون إلا بتعنيف الزوجات!! ويتداول فيها أيضا المثل القائل: "المرا زريعة إبليس"، وإبليس هو عدو الإنسان، ومن ثم فالقضاء على "زريعته" يحتاج إلى القوة والقهر ... وقس على ذلك أمثال كثيرة من هذا القبيل التي تُشَرْعنُ للتسلط خلف أسوار البيوت!!!

إن هذا المفهوم المتداول عن السلطة يحتاج إلى تحرير وإعادة بناء في الوعي الجمعي للمواطن المغربي في كل مستوياته الخاصة والعامة، حتى يتخلص من هذه الحمولات السلبية التي علُقت به جيلا بعد جيل، وحتى ينسجم مع معاني الخدمة الإيجابية وليس الحظوة الاجتماعية، والتكليف وليس التشريف، والمسؤولية وليس التعالي والتسلط...


 

محمد إكيج