يحيي المغرب في السادس يناير من كل عام اليوم الوطني لمحاربة الرشوة، وهي مناسبة حتى وإن كان الاحتفاء بها يمر بشكل باهت ولا يرقى إلى مستوى ما تحظى به المهرجانات الغنائية من اهتمام إعلامي واسع، تبقى محطة هامة تستوجب من جميع فعاليات المجتمع وكافة المسؤولين بمختلف القطاعات التوقف عندها مليا، لتقييم حصيلة الإنجازات والإخفاقات التي عرفتها السنة الجارية وما قبلها من سنوات، في مجال محاولة القضاء على هذا الورم الخبيث، الذي ما انفك يتمدد في مفاصل مؤسساتنا دون القدرة على استئصاله.

والرشوة ظاهرة كونية لا يخلو منها أي مجتمع وإن بوقع أقل بكثير مما هي عليه في مجتمعنا، وتشكل أحد الأمراض الأشد فتكا بكل مكوناته، لما يترتب عنها من آثار تهدد سلطات الدولة ونظامها، وتساهم في عرقلة جهود التنمية والحيلولة دون جلب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز القدرة التنافسية على الصعيدين اٌلإقليمي والدولي. ناهيكم عن أنها تفوت على البلاد زهاء 5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وفق تصريحات سابقة لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني، وتفقد المواطنين الثقة في الإدارات العمومية، بسبب انحراف بعض الموظفين وتجردهم من قيم المواطنة والنزاهة والصدق والأخلاق، أمام انعدام الحكامة الجيدة والحزم وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وإذا كان المشرع اكتفى بإفراد نصوص للرشوة في القانون الجنائي من المادة 248 إلى 256 دون إعطائها تعريفا صريحا وواضحا، فقد عرف الفقه فعل الرشوة بأنه عرض بين طرفين اثنين: موظف يطلب أو يقبل أو يتسلم رشوة للقيام بخدمات من صميم مهامه أو الامتناع عنها واستغلالها لمصلحته، ومواطن يدفع مقابلا لها. بينما تراها الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة "كل عمل غير مشروع ينتج عن تعسف في استعمال سلطة سياسية أو قضائية أو إدارية أو اقتصادية، وتوجيهها لخدمة مصلحة خاصة. وتشتمل عموما على فرض تعويض غير قانوني من أجل منح امتياز لمن لا حق له أو يتعذر تحقيقه"

ولجريمة الرشوة في مدلول القانون الجنائي المغربي ثلاثة أركان، وهي على النحو التالي:

1- أن يكون الجاني يحمل صفة موظف عمومي حسب المادة 224 من القانون الجنائي، ومختصا بالعمل المطلوب منه أداؤه أو الامتناع عن القيام به.

2- ركن مادي قوامه فعل الطلب أو القبول أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى مقابل العمل أو الامتناع.

3- ركن معنوي يتخذ دائما صورة القصد الجنائي، لذلك يتطلب الأمر أن يكون الراشي والمرتشي على علم مسبق بأن الفعل الذي يقدمان عليه يندرج في إطار الأفعال المجرمة والمعاقب عليها في القانون الجنائي. والعلم هنا مفترض مادامت القاعدة القانونية لاتسمح لأحد بجهله القانون، وتذهب إرادتهما إلى تحقيق الفعل المادي، وبلوغ الهدف المتوخى، حتى لو لم يتحقق بالفعل، وبانتفاء أحد هذين العنصرين تنتفي معه جريمة الرشوة.

فظاهريا يبدو المغرب على درجة عالية من الوعي بخطورة الآفة وأنه لا يألو جهدا في اتجاه محاصرة الفساد الإداري والمالي والحد من تفشي معضلة الرشوة، ومحاولة تجنب انعكاساتها السلبية والمؤثرة على جميع المجالات بدون استثناء، واتخاذه مجموعة من التدابير والإجراءات الرامية إلى تخليق الحياة العامة، إذ تمت بلورة برامج وطنية والمصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في 2007، وإصلاحات أخرى قانونية ومؤسساتية، فضلا عن الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة في

أبريل 2016 التي تمتد لمدة عشرة أعوام وتهدف إلى ترسيخ قيم النزاهة والشفافية والحد من الفساد في أفق عام 2025، وقبلها قدمت وزارة العدل والحريات في يونيو 2015 آلية سهلة وسريعة قصد ضبط الجناة متلبسين بحالات الرشوة والابتزاز مع ضمان حماية المبلغين، متمثلة في وضع خط هاتفي مباشر رهن إشارتهم، وأصبح المواطنون أنفسهم مجندين لفضح المفسدين عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما أن الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبرانسي المغرب) أحدثت لنفس الغاية مركزا للدعم القانوني، ودشنت رئاسة النيابة العامة آخر في ماي 2018 يشمل عدة خطوط هاتفية مباشرة، تحت إشراف موظفين من ذوي الخبرة في ميدان التواصل...

وبالرغم من توفر المغرب على نصوص قانونية وآليات وهيئات الحكامة واستراتيجية وطنية لمحاربة الرشوة، فإنه لم يتمكن بعد من مواجهة الظاهرة التي باتت تكتسح مصالح كافة القطاعات وفي مقدمتها الصحة والتعليم والقضاء والأمن، وتكبده خسائر فادحة، تنعكس بالسلب على النمو الاقتصادي والاستثمار والتنافسية. إذ إضافة إلى احتلاله رتبا متدنية في مؤشر إدراك الرشوة، يلاحظ المراقبون أن التشريعات المناهضة للآفة تسير بوتيرة أسرع مما يتحقق في الواقع، جراء ضعف أداء الحكومة وغياب الإرادة السياسية الحقيقية، وما تعرفه قضايا الرشوة في المحاكم من انتقائية وبطء شديد في مسطرة البت، وأحكام لا ترقى إلى مستوى الجرائم المقترفة...

إن مكافحة الرشوة لا تقتضي فقط تظافر جهود جميع المؤسسات بما في ذلك الأسرة والمدرسة، بل تتطلب أيضا الانخراط الفعلي في مرحلة تطبيق الإدارة الرقمية وفق ما تسمح به تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، لتجويد الخدمات الاجتماعية والرفع من مستوى الرقابة، حيث أن مثل هذه الإدارة في الوقت الراهن أصبحت ضرورة ملحة، تمليها التحولات الإلكترونية والانفتاح على العالم والتفاعل الإنساني، والقضاء على التحديات البيروقراطية وبؤر الفساد، وتيسير مأمورية المواطن في تحقيق مآربه في أجواء من الشفافية والنزاهة، بعيدا عن الرشوة والمحاباة والمحسوبية...



اسماعيل الحلوتي