إلى عهد قريب كانت فنلندا ضمن الدول الأوروبية في أسفل قائمة الترتيب على مستوى

التعليم، لكن بمجرد إدراكها لأهميته وضرورته على سلم التقدم سارع مسؤولوها للنهوض

به، فوضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب، و رصدوا له أكبر الميزانيات و جهزوا

المدارس بكل ما تحتاج إليه. فكانت المعجزة. فمنذ عشر سنوات فنلندا تتصدر قائمة الدول

في التعليم على الصعيد العالمي، و أصبحت قبلة لكل الدول المتقدمة، رغبة منها في

الاستفادة من تجربتها التعليمية. وطبعا لم يكن هذا التميز من فراغ.

فابتداء من الشروط الصارمة لانتقاء المدرسين، إذ لا يقبل ترشح غير ذوي الشواهد العليا

مع إخضاعهم لتكوينات معمقة، حتى إذا سلموهم أقسامهم تتاح لهم مساحة معتبرة لاختيار

ما يناسب لمتعلميهم من مناهج تعليمية وطرق بيداغوجية، إلى مستوى بنيات مدارسها التي

يصعب على من لا يعرفها، أن يميزها عن الحدائق المصنفة مجهزة بكل وسائل الترفيه،

ملاعب لمختلف الرياضات وحبال للتسلق والقفز والركض و التزحلق و غيرها، فضلا عن

المراسم والمختبرات العلمية و المطابخ و أحواض تربية الأسماك و ورشات النجارة

والحدادة و بقية الحرف. كل ذلك ليزاوج المتعلم بين التعليم النظري و اكتساب المهارات

اليدوية، فيحقق قولا وفعلا مقتضيات المقاربة بالكفايات بما تعنيه من تهيئة المتعلمين للحياة.

تكفي الإشارة إلى أن دولة فنلندا لما تقرر تجديد مرافق مدارسها، فإنها تُلْزِم المهندسين

بالجلوس مع الأطفال لسماع طلباتهم وما يحتاجون إليه، فيكون لهم كل ما يقترحونه.

إن أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم، هي التخلص من مجموعة من الجراثيم

المعدية التي ابتليت بها المدارس عبر العالم، كما سماها الأب الروحي للتعليم الفنلندي

الدكتور "باسي سالبرغ" المبشر الأبرز بالأساليب التعليمية الجديدة، جعله محط إعجاب الدول

الكبرى، فخصصت جلسات برلمانية لمناقشة أفكاره، و استدعته أكثر من دولة للتدخل في إدارة مدارسها.

أول هذه الجراثيم كثافة المواد، ثانيها كثرة الاختبارات والامتحانات، ثالثها إطالة ساعات

الدوام، رابعها الواجبات المنزلية، خامسها الدروس الخصوصية.

ترى لو جازفنا بإحصاء الجراثيم في تعليمنا، كم نحتاج لحصرها؟

الغريب أنه خلال كل محطة إصلاحية، نسمع الكثير عن سفريات اللجان بتعويضات خيالية،

بهدف الوقوف على تجارب الأمم الناجحة، لكن الإشكال عادة ما يتمخض الجبل فيلد فأرا.

فما الذي يأتون به من زياراتهم المكوكية عبر دول العالم؟

إذا كان على المواد فلا أعتقد بلدا يفوقنا فيها عددا وعدة، حتى لتجد وزن المحفظة لولا

المبالغة لقلنا إنها تتجاوز وزن الطفل الذي يحملها. و إذا كان على الاختبارات فحدث ولا

حرج، فمنذ أن يعتب الطفل باب المدرسة عمومية أو خصوصية، وهو غارق فيها حتى

أذنيه. الجميع يمتحنه حتى بالبيت، فالطفل في سن الثالثة أو الرابعة من عمره، أول سؤال

يصبح عليه ويمسي "شنو قريتو اليوم؟"، مقارنة بهذه الدولة التي لها حساسية مفرطة من

مسألة الامتحانات.

فالمدارس يطلق عليها هناك "منطقة خالية من الاختبارات". فمهمتها محددة في مساعدة

الطلاب على الفهم داخل الصف دون إرهابهم بسيف الامتحانات كيفما كان نوعها. فالطالب

حسبهم كلما تحرر من رهاب الامتحانات وضغوطاتها، استطاع أن يفكر ويعبر و يتطور

و ينمي مهاراته وقدراته من غير خوف أو وجل من السقوط أو الخطأ. أما ساعات التدريس

فهي الأقل على مستوى العالم. نأمل أن يعلق مسئولونا الذين يصرون على الإبقاء على

التلاميذ أطول مدة ممكنة بين جدران الحجرات، على طاولات خبرها عند المكتوين بنار

الجلوس عليها لساعات طويلة. فضلا عن المنع الكلي للدروس الخصوصية و كذا الفروض

المنزلية، كل ذلك ليتركوا للطفل مساحة واسعة ليعيش طفولته ويمارس هواياته.

ففي الوقت الذي تسعى الدول للقطع مع هذه الجراثيم المعيقة لأي إصلاح، نعمد نحن إلى

تكريسها من جديد (خلال هذا الموسم تم الإقرار الرسمي للنشاط المنزلي بالمستويين الثالث

و الرابع، وكذا مطالبة المتعلمين بإعداد ملفات يتم عرضها في الأسبوع الأخير من كل

وحدة دراسية).

سؤال محير فعلا عن الإصرار على معاكسة مجرى التاريخ باستنساخ تجارب ثبت فشلها.

ألا يقال "اللي يجرب المجرب عقله مخرب". هذا نموذج ماثل للعيان أثبت نجاعته، من مدة

يتصدر طلاب مدارسها المشهد العالمي في تقويمات القياس الدولية، ويحقق الأهداف

الرئيسية المسطرة لديهم متمثلة في الاقتصاد الجيد المواكب لمتطلبات العصر، والثاني

المحافظة على ثقافة البلد.

طبعا لن نكون مثاليين لنقول باستنساخ تجربة فنلندا بدقائقها، ولكن على الأقل نحاول السير

على دربها. فالوصول المتأخر خير من عدم الوصول بالمرة. مع الإشارة إلى أن أي

إصلاح لا يمكن تحقيقه في قطاع التعليم دون بقية القطاعات الأخرى الاقتصادية و

الاجتماعية و السياسية.



بوسلهام عميمر