تتداخل مفاهيم "الثقافة " الكونية الحديثة وتتشابك مع القيم الفكرية والحضارية والمدنية والعلمية لتتحول إلى دائرة إبداعية واسعة، مشبعة بالتراكمات المعرفية والتجارب الميدانية لأنماط السلوك الإنساني، وبذلك تتحول "الثقافة" إلى صناعة خلاقة وفاعلة لأنماط فكرية/ سلوكية/ علمية/ سياسية متجددة.

وفي الاصطلاح اللغوي العربي تربط الثقافة بين القيم الإنسانية وبين مفاهيم الرقي في الأفكار، وعمليا تمتد الثقافة العربية على مساحة واسعة من الجغرافيا الكونية / تمتد على الأرض العربية التي تحتضن أزيد من مائتي مليون نسمة، من خلال مئات المتاحف وآلاف المكتبات العامة، وعشرات من مراكز التوثيق ومراكز الفنون التشكيلية، وعشرات النقابات والجمعيات الثقافية والفنية، ومئات المسارح ودور العرض، ومئات الفرق المسرحية، وقاعات السينما وقاعات العرض التشكيلي، وعشرات الفرق الموسيقية، إضافة إلى العديد من معاهد التعليم السينمائي، ومجامع اللغة العربية والعلمية، واتحادات الأدباء والكتاب والفنانين، ونقابات الصحفيين، وإلى مئات القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، ودور النشر والتوزيع والطباعة، وليس بعيدا عن كل ذلك، ترتبط البلاد العربية، بمعاهدات ثقافية، مع أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا ومع منظمات عالمية منها "اليونسكو" كما ترتبط بمؤسسات جامعة الدول العربية، أبرزها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التي وضعت منذ عدة سنوات، استراتيجية للثقافة العربية، ومع ذلك فإن الواقع الثقافي العربي يقول عكس كل هذا، يقول بوضوح وصراحة وشفافية، إن الثقافة العربية، في المشرق والمغرب مازالت تحتل المنطقة الثالثة في عالم اليوم، فهي بشهادة كل الموسوعات العالمية، ثقافة عريقة، ذات ماض باذخ، تمتد على رقعة حضارية شاسعة، تحتضن على أرضها كل الديانات السماوية، تمتلك خصائص عامة تتميز بالوحدة والتنوع، وكان دورها ولا يزال في الثقافة الكونية، دورا إبداعيا إشعاعيا، مطبوعا بالعطاء الثابت والمستمر... ولكنها ما زالت بعيدة عن عصرها الحديث.

والسؤال: ما علاقة هذا بمفاهيم الثقافة الحديثة؟

في الاصطلاح اللغوي/ العلمي، في الحضارة الحديثة، لم تعد الثقافة راسية على أنشطة الأفكار النظرية والعقلية، أي على قيم الآداب والفنون، والعلوم الإنسانية، والقانون والسياسة والتاريخ والأخلاق والسلوكات والأمور النظرية والمعنوية وحدها، بل امتدت لتشمل كل ما يتعلق بالمدنية والحضارة، أي كل ما يتعلق بالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والصناعة والزراعة وغيرها من الأمور التطبيقية، إضافة إلى العلوم النظرية العقلية والتجريبية والتطبيقية الأخرى، وهو ما أعطى لهذه الثقافة مفهوما مغايرا في العالم الحديث.

من هنا اتجهت الثقافة الحديثة، إلى تحرير الإنسان وتقويمه، إلى وضع القوانين والأفكار المنظمة لحياته. من أجل سيطرته على الكون والأشياء، ومن أجل خلق وسائل لإسعاده، بما ينتجه من أفكار وإمكانات وعلوم وصنائع، وكل ما يرسخ قيم الحضارة في المفاهيم الحديثة.

السؤال الذي يطرح نفسه علينا بحدة وقوة: متى يجعل العالم العربي من ثقافته وعاء حضاريا يحفظ للأمة هويتها، ويضمن في الوقت ذاته، انخراطها في الحضارة الحديثة، ويكسبها السمات التي تميز موقعها العلمي/ الحضاري/ الإبداعي، على الخريطة الكونية...؟

نطرح السؤال، ولا ندري في الحقيقة، هل تملك وزارات الثقافة في العالم العربي الإجابة المقنعة عنه، أم أن هذا الأمر ما زال بعيدا عنها وعن تصوراتها واهتماماتها.

أفلا تنظرون...؟

 

محمد أديب السلاوي