نالت الجزائر استقلالها عن فرنسا عام 1962. جاء الاستقلال بعد توقيع فرنسا الديغولية اتفاقية إيفيان مع جبهة التحرير الوطني الجزائري. لم يكن تخلي فرنسا عن الجزائر هيناً. استلزم الأمر وجود قائد تاريخي بحجم الجنرال شارل ديغول. ذهب الرجل يوما إلى الجزائر العاصمة وخاطب فرنسييها بعبارته الشهيرة "لقد فهمتكم"، ليعود لاحقا ليفاجئهم بنظريته التاريخية حول "سلام الشجعان". لملم ديغول جند بلاده وترك الجزائر لجزائرييها.

سال دم كثير قبل التوصل إلى "سلام الشجعان". ما زالت الذاكرة الجزائرية مليئة بحلقات دموية دراماتيكية داخل تاريخ احتلال دام أكثر من 120 عاما. كان من شأن التحرر من الاستعمار أن يؤسس لقطيعة جزائرية طويلة مع فرنسا التي طاب، لها قبل سنوات فقط وبشكل خجول، أن تعترف بشيء من مسؤوليتها. لكن الأمر، للمفارقة، لم يكن كذلك.

ما زال أهل الجزائر يعتبرون أن قرار بلادهم ما زال في باريس، وأن صعود ونزول واجهات السياسية في بلادهم بقي خاضعا لمزاج الحاكم في فرنسا. باتت الأخيرة ملاذ حكام الجزائر الجدد وحاضنة أموالهم وحامية لجوئهم، لكنها أيضا بالمقابل، فتحت أبوابها أمام المعارضة الجزائرية وشخوصها ومنابرها. باختصار هي "متلازمة ستوكهولم" ربما. لكنها حقيقة لا ينكرها الجزائريون.

حكم حزب جبهة التحرير الوطني الجزائر منذ الاستقلال، حزبا واحدًا يمثل الشرعية الثورية لحرب التحرير. في ثمانينيات القرن الماضي، وإثر اندلاع احتجاجات شعبية كبرى (اكتوبر 1988)، تم في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد التشريع لتعددية حزبية. بيد أن التغير الشكلي للنظام لم يؤثر على حكم "الدولة العميقة" التي تسهر المؤسسة العسكرية على رعايتها وهندسة ديناميتها. والجيش الوطني الشعبي هو وريث جيش التحرير الوطني، الذراع العسكرية لجبهة التحرير الشهيرة.

وفيما بقي الصراع خفيا وكامنا بين "جنرالات فرنسا" داخل جبهة التحرير والآخرين، فإن الردح الذي أظهره حكام الجزائر ضد فرنسا وتاريخها الاستعماري خلال العقود التي تلت الاستقلال، والذي يتصاعد في أي مناسبة تحتاج لشعبوية تقهر خصوما، كانت لزوم تلك العلاقة الملتبسة بين الحكم في الجزائر وذلك في باريس.

على أن فرنسا تبقى مناسبة لتصفية الحسابات الداخلية. في الجزائر من يتحدث عن المستعربين في مواجهة التفرنس على يد المتفرنسين. ومن يتحدث عن الجزائر المستقلة ضد "جماعة فرنسا".

والسجال ليس بالضرورة بين المعارضة وأهل السلطة، بل أن السلطة نفسها تفتك بمن لا ترضى عنه من داخل تلك السلطة باتهامهم بالتبعية لفرنسا والولاء لباريس. والأمر تشهده البلاد هذه الأيام من خلال ما تروجه دوائر الإعلام القريب من السلطة حول زيارات مشبوهة قام بها هذا وذاك، في تلك الفترة ذلك التوقيت لباريس أو مدن أخرى في العالم، للقاء مسؤولين فرنسيين.

تعيش في فرنسا جالية جزائرية كبرى هي الأولى من بين الجاليات الأجنبية. تيارات اليمين متطرف تعتبرها كما باقي الأجانب خطرا على الثقافة الفرنسية والاستقرار المجتمعي للبلد، وطبعا، حاملاً مقلقا للإسلام إلى فرنسا. بعض آخر يعتبر أن الجالية هي "حصان طروادة" يمثل نفوذ الجزائر في قلب فرنسا، وأنها عصية على أي اندماج داخل المجتمع الفرنسي، وان البعض داخل هذه الجالية (وربما يمثلون مزاجا عاما) أطلق صرخات كراهية واستهجان ضد النشيد الوطني الفرنسي (المارسييز) حين عزف يوما في قلب باريس في بداية مباراة جمعت المنتخب الفرنسي والمنتخب الجزائري.

ومع ذلك، فإن باريس، في عرف كثير من الجزائريين، تعزل وتعين وتقرر مسار الحكم في البلاد، وأن الانتخابات الرئاسية المقبلة (12 ديسمبر المقبل) لا تخرج عن هذه القاعدة. الفرنسيون أنفسهم لا يصدقون أن بلادهم، التي تراجع نفوذها في العالم مقابل تقدم دول صاعدة أخرى، مازالت فعلا تملك ناصية القول في الجزائر.

لا يجب التقليل مما يجمع النظامين داخل البلدين. تحركت فرنسا بحيوية لافتة وتدخلت عسكريا في مالي عام 2013 (إقليم أزواد) ضد جماعات الإرهاب التي كادت تطيح بنظام الحكم في باماكو. كان في ذهن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولند آنذاك أن شيوع الإرهاب في الصحراء الأفريقية مقدمة لزحفه باتجاه أوروبا وفرنسا نفسها. بيد أن في ذهن آخر من اعتبر أن همّة باريس مهجوسة بمصالح فرنسا في مناجم اليورانيوم في النيجر. وعليه فإن لفرنسا مصالح مباشرة في قطاع الغاز والبترول في الجزائر، وإن غياب الاستقرار في رأس السلطة أو في هويتها وطبيعة خياراتها أمر يقلق باريس وعواصم أخرى خلفها.

من هذه العواصم موسكو. فأن ترضى العواصم على الحاكم في الجزائر وليس رضا الشعب الجزائري على حاكمه هو الفيصل. كان ذلك واضحا في ما أدلى به رئيس الدولة الجزائري عبدالقادر بن صالح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكتوبر الماضي حين التقاه في سوتشي بروسيا.

تبرع الرجل في جلسة رسمية جمعت وفدي البلدين بالقول: "فخامة الرئيس، أريد أن أطمئنكم بأن الوضع في الجزائر وضع متحكّم فيه وأننا قادرون على تجاوز هذه المرحلة الدقيقة (...) وأن وسائل الإعلام تضخم حقيقة ما يجري". في الجزائر من استهجن دونية الرئيس وتصرفه وكأن الجزائر محافظة روسية.

بدا أن بوتين نفسه استغرب إفادة "المحافظ" ولم يعرها اهتماماً. بيد أن هذا التفصيل يكشف المقاربة الحقيقية التي تود من خلالها السلطات في الجزائر التعامل مع الحراك الشعبي المستمر منذ 22 فبراير الماضي. السلطة ذاهبة إلى فرض انتخابات رئاسية تنتج رئيسا يمثل واجهة الجزائر المطمئنة للعالم. تستفيد تلك السلطة من حالة سماح لم يربكها إلا موقف "عرضي" للبرلمان الأوروبي بشأن القلق من حالة حقوق الانسان في الجزائر. السلطة تعلم أن ضغوطا دولية كبرى فرضت مع الشارع في السودان التغيير في هذا البلد. والسلطة تستنتج غياب هذه الضغوط بالنسبة للجزائر.

لن تمارس السلطات في الجزائر أي غش أو تلاعب في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لا تحتاج إلى ذلك. قد تتلاعب ربما بنسب المشاركة في هذه الانتخابات لمحضها بغطاء شرعي. لكنها لن تعارض وصول أي من المرشحين إلى سدة الرئاسة. لسان حال السلطة يقول للمرشحين اذهبوا أنى شئتم فمنابعكم تصبّ في غلالي.

المرشحون خمسة: عبدالمجيد تبون، علي بن فليس، عزالدين ميهوبي، عبدالقادر بن قرينة، عبدالعزيز بلعيد.

وهم جميعا مرشحون لا يمثلون حراك الشارع. تنوعت تجاربهم واختلفت سيرتهم في الولاء والبقاء والاختلاف. وحده بن فليس من بين المرشحين من عارض بوتفليقة وترشح في السابق ضده. ذلك أيضا قد يكون من لزوم الشغل الذي قد يعيد تعويم خصم لبوتفليقة من أجل تعويم سلطة ما بعد البوتفليقية.

محمد قواص