هذه ورقة على هامش الندوة حول "أركيولوجيا وتراث البوادي بالمغرب" المنظمة يومي 25 و26 نونبر 2019 من طرف الجمعية المغربية للأركولوجيا والتراث بالرباط، النسخة الأولى.

لا بد في البداية من إبداء بعض الملاحظات ارتباطاً بالمنهجية approche، ومن بين رهانات الندوة، التراب territoire، والظرفية contexte المحلية والعالمية:

فانطلاقا من قراءة سريعة للحمولة التي أصبح يستوعبها مفهوم "التراث" أخيرا، patrimonialisation، يلاحظ المتتبع وجود الرغبة الجامحة، في ظل الأزمة الاقتصادية لما بعد التصنيع، للإمساك بكل ما هو قديم والتدخل العاجل عبر برامج وآليات خاصة لتثمينه (الثَّمن)، وإخراجه سلعة قابلة للتسويق والاستهلاك.

ولا بد هنا من الإشارة إلى سعي الدول والمدن للبحث عن اعتراف المنظمات الدولية مثل اليونسكو، بالتراث، باعتباره إرثا عالميا وذاكرة وجب الحفاظ عليها.

انعقد هذا اللِّقاء الهام في سياق دولي يتَّسم بالعودة لتأسيس الاستراتيجيات الرابحة التي ستَجلب اهتمام الليبرالية الجديدة للأركيويوجيا وللموروث وللتشكيل، تمهيداً للدفع بالسياحة الثقافية للأمام، كصناعة جديدة مُنقذة للحداثة وحتى للرأسمالية الباحثة على مر الدوام على الربح المضمون.

الرأسمالية تبحث عن تحقيق تراكم الثروة بتحويل حتى الوقت الثالث المعروف بنشاط الترفيه loisirs، لقطاع مربح، كما هو الشأن بالنسبة إلى العمل.

والجديد في هذا اللِّقاء هو العودة للبادية ولِما تزخر به من آثار مادية ولامادية.

وبقدر أهمية البرنامج الغني والمكثف، بالقدر الذي جاءت فيه سِياقات التدخلات للسَّيدات والسّادة الأساتذة، متنوعة ومتكاملة بتنوع وغِنى التراب المغربي المحتضن لأولى التجمعات البشرية على الإطلاق خاصة "الإنسان العاقل".

والملاحظة الثانية، قبل المرور لبعض التفاصيل، هو السلطة الرمزية والفعلية التي فرضها الجبل la montagne على الإنسان طيلة القرون الغابرة، وعلى الباحث خلال القرون الحديثة، خاصة الفترات الوسطى من بعد الميلاد، وظل الجبل بشكله وعلوه هو الشاهد على ما مضى من أحداث وتفاعلات، وهو الشاهد كذلك على العصور الجليدية، حتى وإن احتاج مثلا جبل توبقال لـ 150 مترا إضافية ليصبح الحاضن للعصور الجيولوجية الجليدية (والشهادة هنا للدكتور في الجغرافيا السَّيد الفاسي إدريس، ولنا عودة لعرضه الافتتاحي اللافت والذي قدمه ببراعة كبيرة على هامش هذا الملتقى الدولي حول الإطار البيئي الطبيعي القديم المواكب لأوائل البشر).

الملاحظة الثالثة والتي وقفتْ عندها بعض العروض وهي اختفاء شبكة مهمة من المدن ومن التجمعات الحضرية القديمة وتَحولها حاليا إلى بوادي ومداشر أو قرى، واختفاء جُلِّها، وكأن للمد العمراني، في الزمان والمكان، دورات وحلقات cyclique بدأتْ بالمدن الصحراوية، ثم الجبلية، وحاليا السهلية، الساحلية (والرأي هنا للدكتور في الجغرافيا السيد محمد الناصري على هامش تقديم كتابه Désirs des villes سنة 2018 بالرباط).

فعلينا أن ندرك الكم الهائل من المدن والقرى التي كانت مزدهرة وحاضرة بدلالة عميقة على مستوى الوطن، وفجأة اختفت لأسباب كثيرة وموضوعية.

ونظرة خاطفة على الخرائط الطبوغرافية من مقاييس 50000/1 أو 25000/1 المنجزة من طرف الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية، تعطي تصورا مبدئيا عن بقايا هذه التجمعات وذلك من خلال تحليل الطبونيميا toponymie والرموز symboles المصاحبة للبناء السميولوجي للخريطة الأساسية. وتشكل الزيارات الميدانية، والاطلاع على المراجع التاريخية، والوثائق، وصور الأقمار الصناعية.... أسس البحث العلمي في ميدان الأركيولوجيا كما جاء على لسان كل المتدخلين.

أما الملاحظة الرابعة فهي بطابع منهجي محض؛ فما هو يا ترى المغزى من البحث في ماضي الإنسانية وتتبع آثارها بالرجوع لشواهد خلت، وبالعودة لِما هو مدفون بطبقات الأرض؟

سؤال بديهي لكن لا بد من طرحه لأن العودة للنبش في الماضي بالبحث والتثمين ليس ترفا فكريا واستعراضا أكاديميا، وهو ليس بالأمر الهين بل يحتاج لعمل متواصل ولإرادة قوية ومعلنة من طرف السَّاهرين على الحقل الثقافي، وهي مهمة يزاولها أهل الاختصاص. كما تتطلب الحفريات الجهد، والمال، والاستثمار في تطوير الكفاءات لمواكبة المستجدات التكنولوجية المساعدة على ضبط التواريخ وتفسير، وتأويل الوظائف والعلاقات على مستوى الإنتاج كما كانت وقتئذ؛

فالعودة للماضي، من الناحية المنهجية، هي من أجل فهم الحاضر أولا وأخيرا.

وعليه فما هي الغاية من المناهج التي تُنعثُ بالتطورية أو التقديمة progressiste؟ الرد هنا كذلك من أجل فهم الواقع الحالي وليس استشرافاً للمستقبل كما قد يُعتقد.

الماضي وما قد يأتي يوسعان من هامش الفهم بالنسبة إلينا هنا بالوطن والآن، وعلى هذا النحو جاءت المداخلة الافتتاحية للدكتور الفاسي إدريس لتفتح أفقا جديدا لمن يهمه أمر العمقِ والأفقِ.

ويقول ميشل فوكو ما مضمونه: "الكلام فضائي والحقيقة تحت التراب" "La parole est aérienne et la vérité est souterraine"

فلا بد من الحفر....

غيلان خالد