في كل مرة وأنا أتصفح تعليقات القراء بإحدى المواقع الإخبارية حول بعض الإصدارات لبعض الكتاب المغاربة، سبق أن تقلدوا مناصب حكومية في حكومات سابقة، إلا وأدهشني الهجوم العنيف على الكاتب وعلى إصداره، وقد يصل بالمعلقين إلى السب والقذف، ورجم ذلك الكاتب بوابل من النعوت البشعة، أهمها الخيانة للجماهير الشعبية، أما إذا سبق وكان وزيرا على الشأن الثقافي فتلك قصة أخرى، فقد يتلقى المسؤول موجة من السخرية السوداء، مطبقين عليه المثل المغربي الشهير "كون خوخ يداوي كون داوا راسو".

حاولت أن أثير هذا الموضوع، من أجل أن أثير نقاشا حول نقطة غاية في الخطورة والأهمية، وهي من الأسبق في الكتابة هل الإبداع أم الموقف؟ أو بعبارة أدق هل نحاكم الكاتب على منجزاته الإبداعية أم مواقفه داخل مؤسسات معينة؟

دعونا، نرى كيف تعاملت بعض الأقطار مع كتابها السياسيين، وكيف كان تأثير الأدب أقوى من السياسة، وهنا سنكون مجبرين أن ننحاز إما إلى الكلمات أو الأفعال، لكن ألا يكون الكاتب الفرنسي جون بول سارتر أكثر تعبيرا عندما عرف الكتابة الروائية بأنها تعبير عن الحياة، مع إضافة أشياء إليها، وقد يكون الكذب أبرز الإضافات للحياة حتى تكتمل روائيا، هل دأب كل الكتاب على الطريق نفسه أم لكل واحد تجربته الخاصة ومساره الاستثنائي؟

- الكاتب والصحافي والسياسي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، 28 مارس 1936. واحد من الكتاب الذي شغلوا قراءهم سواء على المستوى الداخلي أوالخارجي بكتاباته المتنوعة وبمواقفه المتغيرة، فقد حاز على العديد من الجوائز ابتداء من سنة 1963 إلى غاية 2010 وكانت هذه السنة لحظة تاريخية في حياته، حيث سيفوز بجائزة نوبل في الآداب، وسيترشح في الانتخابات لرئاسة الدولة، وسيظهر تأرجحه في اللون السياسي بين اليسار الذي كان يمجده ويدافع عنه وبين اليمين الذي سيترشح باسمه، وهنا كان دور الشعب البيروفي بارزا في إسقاطه بعد أن كان مفتونا به في عالم الإبداع خصوصا في بدايته مع روايته الأولى "المدينة والكلاب" التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية.

الكاتب والسياسي اليوناني صاحب رائعة "زوربا اليوناني" ولد في 18 فبراير 1883، درس القانون بأثينا وذهب إلى باريس سنة 1907 لدراسة الفلسفة، وقد تأثر كثيرا بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي دافع عنه بالقول: "ما الذي قام به هذا النبي، فقد طلب منا، يقول أن نرفض العزاءات كلها: الآلهة والأوطان والأخلاق والحقائق" لكنه سرعان ما سيلج عالم السياسة ويصبح زعيما سياسيا لحزب صغير يساري سنة 1945، وتقلد منصب وزير دون حقيبة في السنة نفسها لكن لم يستطع أن يستمر في منصبه وقدم استقالته في العام التالي وذلك سنة 1946. وبعد إحدى عشر عاما من العمل الإبداعي سيرشح لجائزة نوبل، ففاز عليه الكاتب الفرنسي ألكبير ألبير كامي بفارق صوت واحد، ورغم مرضه وإصابته بسرطان الدم ظل وفيا للكتابة الأدبية والإبداع، وقد كتب على مقبرته العبارة الشهيرة: "لا أمل في شيء، لا أخشى شيئا آخر "لكن الشعب اليوناني لم ينسه وقام بتكريمه وذلك باتخاذهم الذكرى الخمسين لوفاته، سنة عملة كازانتزاكيس حيث تظهر في إحدى وجهي العملة صورته وعلى الوجه الآخر من العملة الشعار الوطني اليوناني مع توقيعه.

أما ونستون تشرشل (1874-1965م)، فاشتغل رئيس وزراء المملكة المتحدة، من 1940- 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية، وقضى سنوات حياته الأولى ضابطا بالجيش البريطاني، كان مؤرخا وكاتبا ورساما، وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل، وقد صنفته مجلة التايم كأكثر القادة المؤثرين في التاريخ، وكتكريم لما قدمه صاحب المقولة الشهيرة: "لن نستسلم" فقد تم اختياره من طرف البريطانيين "أعظم شخصية" حسب استطلاع أجرته البي بي سي عن "أعظم مائة بريطاني"، وقد تأكدت عظمة تشرشل أتناء وفاته، حيث تُعدُ جنازته أكبر جنازة رسمية عرفتها البشرية وحتى يومنا هذا بحضور ممثلين من 112 دولة باستثناء الصين، وعلى غير العادة حضرت الملكة مراسم الدفن.

أما ليوبولد سنجور (1906-2001) وهو شاعر وكاتب سنغالي، يعتبره الكثيرون أحد أهم مفكري القرن العشرين في إفريقيا، انتخب لرئاسة السنغال عام 1960 والتي نالت استقلالها في السنة نفسها، وهو مؤلف نشيدها الوطني (الأسد الأحمر). تنازل بمحض إرادته عن الرئاسة مرشحا المسلم عبده ضيوف خلفا له، وقد تركت مواقفه أثرا بالغا في حياة السنغاليين خاصة والأفارقة عامة.

"يبدو أن العديد من السياسيين الذين تقلدوا مناصب وزارية وكانوا يتكلمون لغة الأدب، لم تنل السياسة من رصيدهم القيمي ولم تدفعهم المصلحة والمنصب لاتخاذ قرارات لاشعبية، بل حافظوا على كل المبادئ التي كانوا يدافعون عنها" هذا الكلام فيه نوع من المغالاة والمبالغة والتقديس للكُتاب، لأن كما يعلم الجميع أن داخل حقل السياسة تتخذ القرارات، وهذه القرارات قد تخدم قضية معينة وتربح شوطا لكن لا يمكنها أن تربح كل الأشواط، فالسياسة تبقى رغم كل إيجابياتها عبارة عن مستنقع، ومن باب المستحيل أن تخرج نظيفا من مياهها المتعفنة، لهذا يصعب كثيرا الجمع بين السلطة والأدب، فالأديب الحقيقي دائما هو الحارس الذي لا ينام في حفل السلطة الفرجوي أو الدموي.

وهنا وجب علينا أن نكون صرحاء في اختياراتنا: هل علينا أن نكون مع الإبداع أو مواقف الكاتب الذي يتقلد منصبا وزاريا، هناك من يقول: "أنا لا يهمني موقف الكاتب ولا فظاعاته في أي منصب حكومي، كل ما يهمني هو إبداعه وما يقدمه لي من ثقافة ومتعة" وهناك فئة ثانية تقول: "أنا لا يمكنني أن أقرأ لكاتب له وجهين، وجه سياسي انتهازي يأكل من طبقين، طبق السلطة الشهي، وطبق الشعب الفقير، وهذه الفئة تعتبر هذا الكاتب السياسي خطرا على السياسة وخطرا على الأدب، لأنه يستغل كلا الحقلين لتحقيق مآربه الشخصية.

من منكم يتذكر غسان كنفاني، الأديب الفلسطيني الكبير وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والناطق الرسمي لها، كانت كل تحركاته من أجل قضية سامية هي تحرير بلاده، وكانت أغلب أعماله الأدبية تتناول تيمة العمل الفدائي، تم تهديده أكثر من مرة بالقتل، لم يخن قضيته ولم يخن قلمه، في الأخير تم اغتياله بعبوة ناسفة، مات الرجل، عاش الرجل.

 

عبد الكريم ساورة