أولى بنبركة أهمية خاصة للإشكالية التنظيمية سواء أثناء انضمامه إلى حزب الاستقلال أو أثناء مساهمته في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ففي محاضرة ألقاها أمام فرع حزب الاستقلال بالدار البيضاء في ماي 1957 اعتبر أن التنظيم هو رأس المال الثاني للحركة الوطنية. إذ أن كل إهمال لهذا الرأسمال يهدد بضياع الرأسمال الأول.

لذا "يجب إدماج هذه القوة الممثلة في الجماهير الشعبية المقتنعة بأفكار ضمن صفوفنا المنظمة وعدم تركها في الهامش". فقد اعتبر بنبركة أن التنظيم المتجسد في الحزب هو الأداة السياسية التي ستمكن من تغيير الأوضاع في البلاد وتحقيق كل المهام الملقاة على المناضلين سواء كانت سياسية أو اجتماعية.

ولكي يقوم هذا التنظيم الحزبي بعمله النضالي والثوري، أكد بنبركة على ضرورة تقويته والعمل على هيكلته. فتقوية التنظيم الحزبي تتطلب في منظور المهدي أن يتم تطهيره من كل الأمراض التي تسبب في التفرقة والتشتيت، والعمل على التكوين الإيديولوجي والسياسي للأطر، وضرورة التصاق المناضلين بحياة الجماهير خاصة في البوادي، وتحلي المسيرين بمجموعة من الخصال الأخلاقية والتنظيمية.

محاربة أسباب الفرقة والتشتيت

اعتبر بنبركة أن هناك مجموعة من الأمراض "البشرية "، التي يمكن أن تصيب التنظيم الحزبي وتعطله عن مهمته النضالية؛ وبالتالي طالب مناضلو وأطر حزبه بمحاربتها والقضاء عليها، حيث نادى في هذا السياق ما يلي:

"يجب أن نحارب في هذا التنظيم جميع الأدواء والمثبطات وكل السمات المقيتة التي تسبب النفور والاستياء، وتجلب التفرقة والشقاق، وتعوقنا عن السير إلى الأمام. وفي مقدمة هذه الأدواء روح الأرستقراطية التي تتكون أحيانا في صفوف الحزب، هذه الروح البغيضة التي تتقمص في نفوس بعض الكتاب والمسيرين وأعضاء اللجان... ومن واجبنا أن نشعر هؤلاء الذين يسبحون في الهواء بحقيقتهم، ونخضخضهم ونرجهم رجا لينزلوا إلينا، وهذه إحدى المسائل الأكيدة الهامة التي تساعد على تدعيم النظام ونشر الوئام، ويجب أن تكون بواسطة النقد الذاتي لا عن طريق التحطيم والتخريب.

إننا ندعو للانتقاد الذاتي داخل الحزب، وبكامل الشجاعة التي تدفعنا لمجابهة كل واحد ومحاسبته على ما قام به من أعمال وما نراه في تصرفاته من خلل أو تهاون.. من حقكم أن تصارحوا «فلانا) بأنه مقصر في عمله أو متكالب على الشهرة وحب الظهور، أو متكاسل لا يصلح لتحمل أعباء المسؤوليات... أو أناني لا يفكر إلا في نفسه... ولا تبدو «طلعته الكريمة، إلا في المناسبات السارة، والحفلات أو عندما تلتمع عدسة التصوير... هذه مسائل يجب أن تقال ليقف كل إنسان عند حده وليقوم كل واحد بواجبه. ويجب أن نحارب التضليل من أي جهة أتى، وأن لا نتهاون في أية مغالطة يقصد من ورائها تفرقة الصفوف، أو تشتيت الرأي، أو تحكيم الأهواء، إنه لا مجال في صفوفنا للمغالطة والتضليل. إن جميع منظماتنا تفرعت من ينبوع واحد. ويجب أن تظل سائرة في طريق موحدة كي لا نضلل شعبنا، ونفرق شمله، ونشتت رأيه، نحن الآن في وقت التجمع ويلزمنا أن نعمل على تقوية هذا التجمع. ويجب أن نقاوم التهاون ولا نغض الطرف عن كل من يتوانى في عمله.

إن شعارنا هو الواجب قبل الصداقة، ولذا يجب أن نصارح كل من يتوانى في عمله وتطالبه بأحد أمرين: إما العمل وإما الانسحاب. نحن لا نريد أن نفرط في أي فرد من إخواننا المخلصين، ولكن هناك فرقا كبيرا بين عدم التفريط وإسناد المسؤوليات، المسؤوليات يجب أن تسند لمن يستطيعون القيام بها، وتحمل أعبائها، والإخلاص في أدائها. أما العاجزون عنها - من إخواننا - فهم أحبابنا وأصدقاؤنا، ومنزلتهم فوق رؤوسنا، ولهم في قلوبنا كامل العطف والحب، ولكن عليهم أن يتركونا نعمل. يجب أيضا أن نحارب هذا الشك الذي يخامر نفوسنا والذي يجعل بعضنا في ريبة من البعض الآخر ونواياه. ولذا ندعو للنقد الصريح ولا نقبل الانتقادات المبنية على الشك والتشكيك أو الملفوفة في رداء الريبة وسوء الظن. إننا نقصد من النقد التطهير والبناء، وعلينا أن نعتبر كل من يعمل في موايا إخواننا، عدوا لدودا لنا. ولكن ما دمنا لا نحصي أعداءنا ونعرفهم فنحن تائهون، علينا أن نعرف هؤلاء الأعداء وأن تنحيهم عنا. هذا هو الشرط الأول أيها الإخوان للمحافظة على رأس المال الذي بيدنا، وهو كما قلت لكم - يتلخص في محاربة روح الأرستقراطية، والتهاون والتشكيك".

-التكوين السليم لمسيري الحزب

وفي هذا الإطار أكد بنبركة على ضرورة تكوين أطر ومسيرين أكفاء يتوفرون على المؤهلات الشخصية والسياسية للقيادة الحزبية سواء على الصعيد المحلي أو المركزي. وفي هذا السياق أشار بن بركة إلى ما يلي:

"إن الشعب الذي كافح لأنه ليس من المعقول أن نوقف العمل وننتظر المسيرين الذين سيحصلون على شهاداتهم بعد عشرات السنين، يجب أن نخرج من بين هذه الصفوف المسيرين الذين ستكونهم تكوينا سريعا ريثما يصل الآخرون، ويأخذوا أماكنهم في صفوف العاملين، ولكن يجب أن تجعل هذا التكوين السريع شغلنا الشاغل، وأساس عملنا في فروع الحزب. هناك خصال لا يمكن أن تكتسب ولا بد لكي يكون الشخص مسيرا، وهي ترجع إلى الاستعداد الفكري وإلى الميل الطبيعي الذي يجعل في الرجل أو المرأة أهلية للتسيير، وذلك هو الإخلاص والتفاني في المصلحة الوطنية وتقديمها على المصالح الشخصية التي - وإن كنا لا ننكر وجودنا - يجب أن تحتل دائما المرتبة الثانية في المسير نفسه. ومن أهم المؤهلات الطبيعية محبة الشخص لمن يريد أن يسيرهم دون تصنع ولا مواربة ولا ترفع. وأول ما نشترطه إذا في التسيير إلى جانب الإخلاص محاربة كل أنانية.

فإنكم لن تنجحوا إذا عاملتم الناس بكبرياء وغطرسة ولم يشعروا منكم بجاذبية الحب غير المصطنع، لأن المسيرين يجب عليهم أن يشعروا قبل كل شيء بأنهم أفراد عاديون لم يجعل الله لهم على أحد سلطانا حتى ينظروا إليه بترفع أو يعاملوه بخشونة وتجمل: أن تقودوا جماهير الشعب من أعلى وعلیکم أن تندمجوا في الناس وتعيشوا وتحسوا إحساسهم حتى تستطيعوا أن تقاسموهم شعورهم وآمالهم، وبذلك فقط تربطون أواصر المودة بينكم وبينهم ويتأكد إنكم لا تخاطبونهم من أعلى كأن الوحي ينزل علیکم أو كأنكم هبطتم علی البشرية من السماء.

لكن إلى جانب المؤهلات الطبيعية يجب على المسيرين أن یکتسبوا معلومات تمكنهم من القيام بمأموريتهم. معلومات تعرفهم بالوسط الذي يشتغلون فيه حتى يكونوا على بينة من ظروف معيشة المجتمع عارفين بالأدواء وما تتطلبه من دواء. معلومات تزودهم بوسائل الإقناع والتأثير حتى یکتسبوا طريقة التفكير الواضح وأسلوب العرض والشرح والتعبير وفق المستوى المخاطبين. وهذا يتطلب منكم أيها المسيرون شغفا كبيرا بالتعلم والاستزادة من المعرفة بدون انقطاع بحيث يجب أن تحاربوا كل جمود في نفوسكم وأن تعتقدوا أنكم في حاجة دائمة إلى التثقيف والتكوين بالدرس والمطالعة والمباحثة وذلك هو السر في تأسيسنا المدرسة المسيرين المركزية التي يتوارد عليها عشرات الإخوان من مختلف الفروع وهو السر في عزمنا على فتح مدارس جهوية لنفس الغرض. ومع هذا كله فإن أحسن مدرسة للمسيرين هي مدرسة الكفاح والعمل إذ فيها ينمي المسير شخصيته ويصلح نفسه ويقوي ملكته وتجربته.

التفرد الشخصي باحتكار المسؤوليات الحزبية

اعتبر بن بركة أن من أسوأ العيوب التي يمكن أن يصاب بها مسيرو وقادة الحزب هو احتكار المسؤوليات المحلية والمركزية وتضخم الأنا السياسية لدى أي مسير انتخبته هيئات الحزب، إذ أنتقد بهذا الصدد المساوئ الناجمة عن هذه العيوب التسييرية وخطرها على التنظيم وبالتالي مواجهة هذا الداء بنقد ذاتي متواصل ومستمر. وبهذا الصدد كتب بأن »أول عيب ينجلي في المسير بعد أن ينتخب في مكتب فرع أو لإدارة منظمة تابعة للحزب هو حب احتكار المسؤوليات والاعتقاد أنه ضروري في كل عمل وبذلك يقطع العمل على العاملين ولا يساعد غيره على التكوين بينما يرهق ويشتت جهوده ولا يحسن في النهاية عملا من الأعمال العديدة التي يباشرها وحده. فيجب على المسيرين أثناء عملهم وأثناء قيادتهم لإخوانهم أن يعرفوا كيف يوزعون المسؤوليات حتى لا يحتكروا سائر المهمات مع حرصهم على مراقبة التنفيذ ومؤاخذة كل مقصر بعد أن يكونوا قد حاسبوا أنفسهم قبل غيرهم. وإن النقد الذاتي لهو الميزة العظمى التي يجب أن تمتاز بها حرکتنا حتى تكون في تحسين مطرد وتتوصل إلى تقوية رجالها وتمتين شخصية قادتها على اختلاف درجاتهم".

التحلي بالخصال الأخلاقية والتنظيمية

أشار بن بركة بأن من أهم الخصال التي يجب أن يتصف بها المسير داخل الحزب هي التروي ورباطة الجأش وملك زمام النفس، فلا يغضب لأتفه الأسباب، ولا ينفعل في مناقشة الصديق أو الخصم على السواء، "ويراقب نفسه ولهجته وعباراته حتى لا يؤخذ على غرة أمام الاعتراضات غير المنتظرة. وكذلك أمام الحوادث عليه أن يلاقيها بدم بارد لا يتزعزع أمام مظاهر التشوق إلى المراتب والطمع في الجاه والتشبث بالسفاسف... ميزة المسيرين على باقي الأعضاء أنهم عارفون لما يقصدون فيهون عليهم كل ما يجدون أمامهم من عقبات ومثبطات. عليكم أن تفسحوا صدوركم للنقد ولو كان مغرضا وأن تحاربوا في نفوسكم جميع الأدواء التي تكمن فيها والتي تتمثل في الأنانية وحب الذات، في الفشل كما لا يندفع بتهور ولا يصيبه البطر أمام النصر.

عليكم أن تتصفوا بالتواضع وحب الاستفادة والعمل على التطور والتجديد لتكونوا في يومكم أحسن من أمسكم وفي غدكم أحسن من يومكم. هذه هي المزايا التي ورثناها من إخواننا المسيرين الذين استشهدوا في الكفاح. وهذه هي الصفات التي كان عليها شهداؤنا الأبطال، الذين استرخصوا أرواحهم في سبیلنا، وضحوا بحياتهم من أجلنا، وتركوا لنا هذه الأمانة في عنقنا وهي تراث مشترك بيننا، ومن واجبنا أن نقوم بها جميعا، وأن ننهض لها واعين بمسؤولياتنا متماسكين متآزرین، رحماء بیننا، أشداء على خصوم بلادنا لا تلومنا في الحق وفي الله لومة لائم. هذه هي الصفات التي نريد أن يتصف بها المسيرون وبفضلها يتم لنا النجاح".

 

د. محمد شقير