أستغرب كيف يودع المجرمون في السجون! بينما يودع المرضى العقليون بالمصحات النفسية، إذا كان الإنسان الذي فقد القدرة على ضبط وفهم إشاراته الدماغية، و قدراته العقلية، و انفعالاته النفسية، يعتبر مريضا لابد من إيداعه مصحا للعلاج، فإن المجرم الذي يرتكب جريمة في حق شخص آخر، يعتبر مريضا أيضا، لأنه فقد القدرة على التمييز بين الخير والشر، وبين كونه إنسانا، أو شيئا آخر، فيكون بذلك شخصا يعاني من اضرابات سلوكية، تجعله فاقدا للتمييز الإنساني، و هو بذلك يحتاج لعلاج مكثف، لإدارة تحت مسمى : الإدارة العامة للتربية وتقويم السلوك الاجتماعي، وليس مؤسسات سجنية تعتبر حصنا لتكوين العصابات وتدريب المجرمين على تقنيات الإجرام الجديدة، ولا مؤسسات إدماج وإعادة تأهيل لا دور لها سوى ربط حاجة النزيل بالاحتياج المهني فقط، دون مراعاة لإدارة السلوك، وتنمية مهارات السلوك وتقوية الشخصية التي قتلها المجتمع، أو الوضع الاجتماعي، ومحاولة بناء شخصية قادرة على مواجهة الخطر الاجتماعي الذي تعيش فيه، مع المتابعة السلوكية بعد الإفراج.

ويستثنى طبعا أولئك الميؤوس منهم، ممن غرقوا في عمق اللاوعي المتراكم، فطغت عليهم شخصيات الوهم الاندفاعي المتوحش، لتجعلهم مهووسين بالجريمة، فالعقاب أحيانا لا يكون فقط بأسوار تمنع الحرية وتحد منها، بل يكون بممارسة التأديب والتربية بعيدا عن أي ردة فعل تجاه المحتجزين، فممارسة التربية عقاب شديد لمن يحاولون العيش خارج القواعد، والتربية على النظام، وتنمية المهارة الاجتماعية، تجعل المحتجز يشعر أنه غير منفصل عن المجتمع داخل المؤسسة السلوكية، بدل أن يحس فقط ومن خلال اسمها كمؤسسة "حبسية" أنها تقوم فقط بمهمة "الحبس" المنع فقط، ما يثير السخرية تجاه عمل المؤسسة السجنية، التي لا تقوم بأي إضافة تربوية بالمعنى التربوي لمفهوم التربية الاجتماعية، ملايير الدارهم لمنع الحرية فقط عن متمردين ومجرمين إلى أجل معلوم، ثم إطلاق سراحهم ليعاودوا إجراما أفظع بعدما اكتسبوا في السجن خبرات وعلاقات إجرامية، و كذلك بعدما مورس عليهم من الإجرام الحبسي ما يجعلهم أكثر كراهية لكل شيء من ذي قبل.

إن المؤسسات السجنية مجرد ثكنات لتدريب المجرمين على إجرامهم، و ليست مؤسسات لتدبير السلوك، لأن الغاية هي الحد من السلوك الإجرامي الذي يمتد إلى المجتمع، وليس الحد من تحركات مجرم داخل متر مربع، ثم إطلاقه ككلب مسعور يعض كل من يلاقيه، وهذا سبب ما نشهده من سلوكات إجرامية أكثر عدائية بعد قضاء المُدَد الحبسية.

أعتقد أن السجون يجب أن تغير اسمها وتغير نظامها وتغير من طريقة التعامل مع المعتقلين والمحتجزين، وسنرى تغيرا جذريا في السلوك الإجرامي، نحو الاعتدال، فلن يصبح للمجرمين ما يجعلهم ينزعون نحو التمرد، والاعتداد بكونهم خريجو سجون، و "محابسية" ليسقط ذلك "الهيت" الذي يسكن في لاوعيهم، ومحاولات الظهور و إثبات الذات، في مقابل امتصاص نشاطهم الزائد غير المتزن و غير المنضبط، و عدم قدرتهم على التحكم فيه لتوجيه سلوكاتهم نحو التفاعل الإيجابي داخل المجتمع، وأحسن وسيلة لتوجيه السلوك هي تجاهل السلوك، وبناء سلوك نقيض، فيقع الاحتكاك ثم المحاكاة، ثم التعود ثم الاعتياد ثم الممارسة التطبعية لسلوكات تفرض نفسها من خلال ممارستها ضمن تفاعل جماعي.

وعليه، فالمقاربات الأمنية لا تُقوِّم سلوكا ولا تحد من جريمة، بل تخلق فقط ساحة حرب نشيطة بين النظام وبين نزوع سلوكي تمردي لمجتمع أعرافه القبلية وصراعاته العرقية و الطبقية أنشأت تاريخا مزيفا من صراع الشعب و نظام أسسه أفراد من الشعب نفسه، إنه صراع بين طبقات من الشعب، إحداهما لتؤسس نظاما والأخرى تخرب هذا النظام، دون أن تمتلك البديل.



 محمد أسامة الأنسي