الاحتجاج ضد وقاحات الصهاينة المتغطرسين أمر مطلوب، والتنديد بالظلم والتعسف الذي يلاحق القضية الفلسطينية، أمر واجب ومرغوب. لكن مع كل هذا، لا يجب أن نغفل عن الطريق الحقيقي والمسار الضروري إلى فلسطين، يقول الكاتب الكبير نجيب محفوظ: "أتحدى إسرائيل أن تفعل بنا، ما نفعله بأنفسنا".

إن فاقد الشيء لا يعطيه، لا يمكن أن نظل هكذا نداري تخلفنا العميق، ونتدبر تراجعنا الشامل بالاحتجاج البلاغي واللفظي، أو بمواجهات صغيرة ومتفرقة لأعدائنا هنا وهناك، سرعان ما تخبو. لن يكون للاحتجاج من معنى وأثر ما لم يصدر عن قوة حقيقية، ومنعة أصيلة، فمشكل فلسطين ليس بالمشكل الطارئ، إنه نحن، إنه معضلتنا المزمنة، والتي نداريها بمعضلات مزمنة أخرى، هي على التوالي: التنديد، الاحتجاجات الخطابية، التجمعات الصورية، الأناشيد الحماسية، بعض الجلسات الباذخة، في بعض المحافل والبرلمانات بغرض استعراض بلاغة الإنشاء، وتسجيل المواقف الصغيرة، الدعاء على اليهود والصهاينة من فوق منابر الجمعة، وتنتهي القصة، ليعود الجميع إلى عوائده القديمة وإلى خياناته التي لا تنتهي. إن الطريق الصحيح إلى فلسطين طويل وعريض، ودون جهود جهيدة وصدق ومكاشفة مع الذات أولا، عبر مواجهتها بالحقائق كما هي، وهذه بعضها:

أولا: إذا كنا نؤمن حقا أن فلسطين لنا، وأن القدس لنا، أو لنا فيها حق ما، فالحقوق تاريخيا تنتزع استحقاقا ولا تعطى جزافا، لا سيما في القضايا الكبرى والمصيرية، كقضية فلسطين، حيث يتشابك الديني مع السياسي ويتقاطع المقدس مع التاريخي، فموازين القوى هي المحدد والمرجح هاهنا، وبلا مقدمات كثيرة، كل موازين القوى الأساسية اليوم، ليست في صالح العرب والمسلمين، ولا مع المتحمسين لأحاديث القدس وفلسطين.

ثانيا: فلسطين عند أكثرنا هي مجرد ورقة للاستعراض البلاغي، وصورة للتباهي أمام الخصوم السياسيين، وتسجيل ما يسمى مواقف سياسية، وفي الداخل فقط ليس إلا. وعند الكثيرين منا، فلسطين موضوع يفيد في إثارة النعرات الرخيصة، والعصبيات الدينية والسياسية، وبأساليب مؤسفة بل ومؤلمة، قوامها الصراع الطائفي والمذهبي الموغل في البدائية، وبالتأكيد لا فائدة من كل هذه الغوغاء.

ثالثا: قل لي، من أنت؟ أقول لك كم تساوي، وماذا تستطيع، هذه هي المعادلة اليوم، وهكذا هي دائما، لا سيما في مواجهة الأعداء الحقيقيين، من أنت؟ فردا، ومجتمعا، من أنت؟ في مؤشرات التنمية، في نظم الحكم، في السير العادي والمطلوب للمؤسسات، في المحاسبة، في التعليم، في الأسرة، في الصحة، في الإدارة، في الحريات والحقوق، في الفنون، في الرياضة، في البيئة، في التدين، وفي فهمك للتدين. في كل هذه العناصر، لدينا أزمات، ومعضلات لا تنتهي، لأننا لا نريد لها حقا أن تنتهي، لذلك كانت أم معضلاتنا دائما، كامنة في انعدام الرغبة الحقة في إيجاد الحلول الحقة، وفي انعدام الشجاعة اللازمة وضمور الصدق المطلوب. إنه لا فلسطين ولا قدس بلا قوة حقيقية، ولا قوة حقيقية بلا كرامة مواطنة مستحقة، وبلا إصلاح عميق وشامل للأوطان. هذا هو الطريق، والباقي مجرد هوامش على دفتر النكسة، ليس إلا.