يثير الوضع الهوياتي لحزب العدالة والتنمية الكثير من النقاشات وردود الأفعال، التي تتخذ أشكالا مختلفة ومتباينة، وتنحو مناح عديدة، لا تخلو من حدة وسوء تقدير وتفهم، أحيانا كثيرة؛ ما يعني ضرورة التوقف لإعادة النظر في سؤال المعنى الذي اقتضى وجود هذا الحزب، وأقنع المواطنين بصورته وأطروحته السياسية معا. ما الذي يحدث الآن داخل حزب العدالة والتنمية؟، ما معنى كل هذا الكم من النقاشات والردود الهوياتية، التي يثيرها المتحدثون عنه، أو باسمه، من الباحثين والملاحظين سواء من أعضائه أومن المتتبعين لشأنه الفكري والتدبيري؟، هل الأمر يتعلق بإعادة النظر في العناصر البدهية الناظمة لصورة الحزب في أوراقه المرجعية، وكذا في المخيال المجتمعي للمواطن العادي؟، أم الأمر يتعلق بانزياح غير مبرر ولا مقنع لبعض أعضائه عن بعض ما ظل يعتبر مرجعيات أخلاقية وثوابت وأصولا يصعب تجاوزها؟

الأمر في تقديري يحتاج إلى الكثير من التوضيح والتصريح، وأتصور أن الدفع بالنقاش إلى مساراته الصحيحة، في هذا الجانب، يقتضي التذكير بما يلي: إن حزب العدالة والتنمية، في صورته الإشعاعية والمتقدمة الحالية، إن على مستوى الخطاب الفكري أو السياسي أو على مستوى التمثلات الأخلاقية، إنما هو خريج الحركة الإسلامية، في صورتها المغربية، وتحديدا حركة التوحيد والإصلاح، التي أفرزت ضمن أدبياتها، وفي وقت مبكر، صيغة ما سمي بالتخصصات، وفسحت لأبنائها من ذوي الميول السياسية جبهة العمل ضمن حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، الذي سيتحول لاحقا إلى حزب العدالة والتنمية، وكانت تؤكد وما زالت ـ في تقديري ـ أن العمل السياسي هو خدمة اجتماعية يقوم بها الإخوان أساسا لوجه الله، ويحرصون فيها على الالتزام بالقيم الإسلامية كما تشربوها في مجالسهم التربوية، وآمنوا بها.

إن التأكيد على البعد الديني والقيمي، بالمعنى العميق والواعي للكلمة، تظل سمة أساسية وبارزة، بالنسبة إلى هذا الحزب، بناء على أدبياته التربوية التي استفادها من علاقته القوية والمباشرة بالحركة، لست أدري ما الذي تغير الآن، في العمق؟ لماذا أصبح البعض يبدي الكثير من الحرج في التأكيد، بل وحتى في الإشارة أحيانا إلى هذا الأصل؟، لماذا هذا الميل عند البعض إلى إخفاء هذا البعد الديني، الذي ظل الحزب يدافع عنه، ويتقدم به إلى الناخبين، وباسمه صوت عليه كثير من المواطنين؟.

نعم، طبيعي أن يحدث التطور، ويطرأ التغير والتبدل في بعض التمثلات والاقتناعات التي يتأكد عدم صلاحيتها، أو تظهر الحاجة إلى تعديلها أو تعميقها؛ ولكن التطور لا يعني أبدا إلغاء المسار، والتملص من المرجعيات والتاريخ.

إن الزي الإسلامي (الحجاب) ـ وهذا مثال فقط لما أثير من نقاشات حول الحزب ـ كان يعني دائما، بالنسبة إلى هذا الحزب وحركته الداعمة، الصورة التي يجب ويحسن أن تظهر بها المرأة في واقع الناس، إرضاء لربها أولا، واختيارا منها وتكريما لها، مع كامل التقدير لكل الاختيارات الأخرى طبعا. كما أن الكثير من الملتزمين بالإسلام، أو كما يعتقدون داخل الحزب، بناء مرة أخرى على أدبيات استفادوها من علاقتهم بالحركة، لا يميلون إلى تبادل المصافحة بين الرجال والنساء، إيمانا منهم مرة أخرى بصوابية هذا السلوك وإنصافه للمرأة والرجل معا، مع كامل الاحترام للتقديرات والاختيارات الأخرى.

وطبعا، لا ترحب هذه الأدبيات بما يسمى اليوم بالعلاقات الرضائية، إذا كانت تعني اجتماع رجل وامرأة تحت سقف واحد، بلا عقد شرعي، في تحوير غير دقيق لما سمي بالحريات الفردية، لست أدري ما الذي يحدث اليوم بالضبط؟. حين أصبح بعض المنتسبين إلى الحركة، ثم إلى الحزب لاحقا، يتحدثون عن أمر المصافحة بما يشبه السخرية من الماضي، ومن الاقتناعات السابقة.

نعم، قد تكون هناك مبالغات أو ترددات، في أكثر من موضوع، يطلب تصحيحها بمنطق علمي، ووفق منهج سليم، احتراما للمسار؛ ذلك أن الأمر كان، وما زال، عبارة عن اقتناعات، آمن بها أبناء الحركة الإسلامية عموما، والتزموا بها، تقديرا منهم للمرأة وتكريما لها، وليس العكس، فما الجديد اليوم؟.

إذا كان الأمر يتعلق بمراجعات، فالأمر يقتضي نقاشا رصينا، يفضي إلى توثيق علمي منهجي لمجمل هذه المراجعات، تتم قراءتها في أبعادها التاريخية والشرعية والمعاصرة جميعا..

وإذا كان هناك من أخطأ التقدير والتصرف من مناضلي ومناضلات الحزب، أخلاقيا أو تدبيريا، فالأمر يلزمه ويخصه، وشأن بينه وبين ربه، عليه أن يتدبره، ولا يصح أن نحوله إلى دعوة للانتصار لتأويلات تبدو مرجوحة وتمس بالأصل الذي بنى عليه هذا الحزب أدبياته ومقاصده الهوياتية، قبل التدبيرية والسياسية، ابتداء.

نعم، إن الأمر يتعلق بحزب سياسي غايته معالجة قضايا المواطنين، وتدبير شؤونهم الحياتية؛ ولكن الاشتغال بالتدبير لا يعني التحلل من مرجعية الحزب، واختياراته الفكرية والسلوكية التأسيسية..

لا وجود لهيئة سياسية حقيقية، عبر العالم، بلا مرجعيات نظرية فكرية وسياسية واضحة، وبلا تمثلات واقتناعات أخلاقية ناظمة وظاهرة.

إن قوة حزب العدالة والتنمية، شأن كل الأحزاب المعتبرة، كامنة في وضوح وتوضيح هويته الفكرية والسلوكية، فضلا عن هويته التدبيرية والسياسية. ومن مصلحة بلادنا وكذا مصلحة الحزب أن يعلن ويفخر بحرصه على حضور البعد الديني والأخلاقي في تدبيره للشأن المدني.. ولا معنى هنا لأي حديث عن احتكار للدين أو ادعاء للأفضلية.

إن الأمر يتعلق باختيار ضمن اختيارات أخرى كثيرة ومقدرة، وللناخب أن يختار ما ومن يشاء. وهذه هي الديمقراطية في بعض تجلياتها الواقعية.

 

إبراهيم أقنسوس