أتصور لو تم التفعيل التام للفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، والتي تنص بصريح العبارة على ربط المسؤولية بالمحاسبة، فهل يمكن تصور التهافت على مواقع المسؤولية وخاصة المسؤوليات الحلوب التي تبيض ذهبا؟ وللإشارة فلأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية يتم التنصيص على هذا المبدأ بهذه الصيغة الصريحة، باعتبارها ركنا أساسيا بعد الاختيار الديموقراطي، وبعد الحكامة الجيدة، وفصل السلط وتوازنها.

فليس اعتباطا أن ينال هذا البند هذا الترتيب المتقدم على سلم أسمى وثيقة يصادق عليها الشعب، تحدد كل العلاقات بين جميع مكونات الشعب المغربي حكاما ومحكومين، رؤساء ومرؤوسين. ثم ليس اعتباطا أن ترد الإشارة إليه في أكثر من خطاب ملكي وفي أكثر من مناسبة.

أتصور لو تم تفعيل هذا البند لوحده، مع ترتيب كافة الجزاءات على كل من ثبت في حقه الإخلال بالمسؤولية، هل يمكن مشاهدة هستيريا التزكيات التي تعرفها مقرات الأحزاب، خلال كل موسم انتخابي لخوض المعارك الضارية من أجل الظفر بمقعد في البرلمان أو كما يحلو للبعض أن ينعته ببر الأمان، بما يضمنه من امتيازات لا تضمنها أية وظيفة أخرى.

فأين تجد على وجه الكرة الأرضية، ولاية واحدة لا تتعدى خمس سنوات تضمن لصاحبها تقاعدا مريحا مدى الحياة؟ هل يمكن تصور ما يقع أثناء تشكيل المجالس الحضرية والقروية والتسابق المحموم لنيل رئاستها، لو كانوا على يقين أن المحاسبة والمساءلة لهم بالمرصاد، هل يمكن أن ينازلوا بعضهم البعض منازلة العدو لعدوه بكل الأسلحة؟

ترى لو تم تنزيل مقتضيات هذا البند، وعرف هؤلاء ما يستتبع المسؤوليات من مساءلة ومحاسبة على كل شاردة وواردة، وعلى كل صغيرة وكبيرة مما يتعلق بالمال العام على الخصوص، هل يمكن تصور أن يركبوا كل مركب "الغاية تبرر الوسيلة" من أجل الظفر بأكبر عدد من كراسي المسؤولية رافضين رفضا قاطعا المساس بحق الجمع بينها على جسامة كل واحدة منها؟

فأنى لشخص بمفرده أن ينهض بأعباء وزارة على قدها وقامتها، وفي الوقت نفسه ينهض بأعباء مجلس بلدي أو قروي حتى لو وصل الليل بالنهار؟ ف"الطمع طاعون" كما يقال. ولكن لِمَ لا بما أن المحاسبة في عمومها لا تتعدى تقارير معظمها حتى لا نعمم يكون مصيرها الرفوف بعضها فوق بعض كل عام، والحبل على الجرار.

ماذا لو تجاوزت المحاسبة والمساءلة الشق المتعلق بالميزانيات لتشمل كل ما يتعلق بالتسيير واقتراح المشاريع وكيفية إدارتها ومدى تحقيق الحكامة بخصوص مدة إنجازها وميزانية تكلفتها ومدى جودتها، هل يُعْتقد أن يتهافت عليها أحد، وهو يعلم علم اليقين أنه "لفرط يكرط". وهل يُتَصور أن يقيم الدنيا ولا يقعدها من يظفر بها بإقامة الأعراس الباذخة احتفالا بالفوز بها؟ فماذا لو تم إلغاء التعويضات على المهام بما أن العمل السياسي في

أساسه عمل تطوعي، أو تم تخفيضها إلى النصف، أو الالتزام فقط بما هو مخول لهم قانونا، بدون ما ترشح به صفحات وسائل الإعلام من إتاوات واختلاسات ورشاوى مقابل التوقيع على إقامة مشاريع بدوائرهم الترابية، فهل يتصور أن تجد منهم من يسارع للتطوع لخدمة المواطنين كما يدعون جميعا في حملاتهم الانتخابية؟ فأين السعار من أجل تحمل المسؤولية

وخاصة لدى من يجعل من الشريعة الإسلامية مرجعية له، من قول النبي الكريم لأبي ذر لما سأله إحدى المسؤوليات فقال له "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".

أتصور لو توالت الإطاحة برؤوس رؤساء الجماعات وتقديمهم للقضاء كما حدث لأحدهم أخيرا بسبب 30 ألف درهم رشوة مقابل تسليمه رخصة استغلال مقهى بأحد مراكز جماعة، وتوالت الافتحاصات والكشف عن التلاعبات الكثيرة في صرف الميزانيات، وفضح الاختلالات في الصفقات الجماعية، ومحاسبتهم عن الملايير التي تنهب في السفريات والولائم والدراسات الصورية، واقتناء سيارات فارهة ما أحوج الجماعات الفقيرة إليها للنهوض ببنياتها التحتية المهترئة، ترى لو تحركت كل آليات المراقبة والمحاسبة والتدقيق، ونهضت مؤسسات المجتمع المدني والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتضافرت جهود كل هؤلاء للكشف عن أي مس بالمال العام أو تلاعب في إسناد المناصب، أو تدليس من أجل المكاسب، فهل يبقى للتسابق المحموم على مناصب المسؤولية من أثر؟

 

بوسلهام عميمر