خرجت الحكومة الجزائرية في رد فعل خجول ومحتشم على تصريحات عمار سعداني (بعد نشر المقابلة التي أجراها مع موقع TSA)، تحاول فيه أن تقلل من حجم الرجة التي أحدثتها مواقفه الواضحة بخصوص مغربية الصحراء، ففي محاولة لحجب الموقف الصارم والصادق لسعداني، الذي كشف بالملموس ورطة النظام الجزائري البائد في خلق واحتضان البوليساريو وتمويلها ودعمها، ككيان يحتجز آلاف الصحراويين المغاربة في تندوف ويمارس اعتداءات متكرر ضد الوحد الترابية للمغرب، قال حسان رابحي، الناطق باسم الحكومة الجزائرية، إن عمار "عبر عن أفكاره الشخصية". في المقابل، عاد سعداني للمرة الثانية ليؤكد مواقفه الثابتة بالقول إن "الصحراء مغربية ولا شيء آخر"، وذلك في تصريح آخر له لموقع "ألجيري وان".

اعتبارا لمكانتة كقيادي لحزب تاريخي "جبهة التحرير الوطني" وكرئيس سابق للغرفة الأولى في البرلمان، جعلت خوضه في ملف حساس وإدلاءه بمعطيات حاسمة في قضية الصحراء يتسمان بأهمية كبرى.

هذا الأمر يستدعي تسجيل العديد من الملاحظات حول الموضوع، نبرز بعضها في الآتي:

الملاحظة الأولى: السياق مسألة مهمة ومحدد أساسي لفهم سلوك أو موقف سياسي معين أو قيادي أو حاكم ما، فقد يقول قائل إن ما تشهده الجزائر من حراك عامل حاسم يدفع الفاعلين في الشأن السياسي، أشخاصا وتنظيمات، إلى استغلاله وتوظيفه للحصول على موقع يجعله يستفيد من الوضع الذي سوف تفرزه التطورات والأحداث في البلاد، أو على الأقل الإفلات من المتابعة، خاصة وأن قضية الصحراء ظلت على مر السنوات تمثل معطى ومحددا في صياغة ليس فقط السياسية الخارجية بل أيضا التوازنات الداخلية للجزائر، إنها فرضيات (قد نقول إن السياق يفرض طرحها) لا يمكن استبعادها بشكل كلي من هذه التفاعلات ومن هذا النقاش.

ومع ذلك، هناك معطيات تذهب في اتجاه تفنيد ما "فرضه السياق"، تتمثل أساسا في أن سعداني لم يكن في السابق يخفي هذا الموقف، والدليل أنه لم يكن يستقبل أي مسؤول عن جبهة البوليساريو حين كان رئيسا للغرفة الأولى في البرلمان الجزائري، في زمن كان فيه التعبير من طرف أي مسؤول جزائري عن موقف يخالف موقف نظام بوتفليقة ومن سبقه يدخل في نطاق المحظورات ويرتقي إلى الاتهام بالعمالة، فجرأة الرجل في هذا الموضوع كانت قائمة وليست وليدة اليوم، والسياق ربما هو الذي جعلها تبدو صريحة أكثر من ذي قبل.

الملاحظة الثانية: ترتبط أيضا بمسألة السياق الذي عُبِّر فيه عن هذا الموقف، فهذا التصريح التأكيدي لمغربية الصحراء من رئيس المجلس الشعبي الجزائري جاء أيضا في سياق دولي أصبح فيه المجتمع الدولي أكثر وعيا ودراية بأن استمرار هذا الملف لا ينفع في شيء، وأطروحة الشعب الصحراوي وتقرير المصير مجرد وهم وأكذوبة لم تعد تنطلي على أحد، فإلى جانب اقتناع الأمم المتحدة بأن القضية يجب أن تدبَّر وتحل في إطار السيادة المغربية، فشلت المحاولات اليائسة لاستمالة الاتحاد الأوروبي من أجل اسثناء الصحراء من الاتفاقيات التي يبرمها مع المغرب، بحيث انتبه الأوروبيون لهذه المناورة الفاشلة، ومن ثمة جدد الاتحاد كل اتفاقيات الفلاحة والصيد مع المغرب دون شروط أو استثناء.

هذا ما أكدته تصريحات المسؤولين الأوروبيين، كما ذهبت إلى ذلك فريديريك موگريني، الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي في الشؤون الخارجية، حين قالت إن المغرب والاتحاد الأوروبي تمكنا لأول مرة من ضبط تصور واحد لكل القضايا المطروحة المشتركة، بما فيها نزاع الصحراء الغربية.

لقد وقعت العديد من التراجعات في "المناصرين" للبوليساريو، حيث قرر العديد منهم، دولا ودبلوماسيين، التراجع عن مواقف كانت غير سليمة، اتخذت بناء على معلومات غير دقيقة في الموضوع، وأبرز مثال هنا مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، حيث صرح بنفسه السنة الماضية، في الوقت الذي كان يتقلد منصب المستشار، مقترحا وجوب عودة الصحراوين القابعين في مخيمات تيندوف إلى وطنهم المغرب، وهو الذي كان إلى عهد قريب تعتقد البوليساريو أنه أحد المقربين إليها.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بكون تصريحات عمار سعداني ليست كلاما تافها أو مجرد "فقاعة سياسية"، بل في واقع الأمر هي تأكيد واضح لحقائق لطالما أعلن وطالب بها المغرب وأكدها المجتمع الدولي، فمهما حاولت الجهات الرسمية الجزائرية نفيها، فإنها ستظل حقائق لا مفر منها. فالنظام الجزائري متورط في خلق البوليساريو وتمويلها، والجزائر طرف مباشر في قضية الصحراء، وهو ما تذهب إليه قرارات مجلس الأمن، كما القرار 2494 الصادر يوم الأربعاء 30 أكتوبر 2019، والسكان الموجودون في تندوف ليسوا بلاجئين بل هم مغاربة محتجزون هنالك، وهذه كلها ليست فرضيات محل التأكد والاختبار، بل أضحت منذ سنوات حقائق ثابتة لا نقاش فيها.

الملاحظة الرابعة: اعتراف واضح من مسؤول جزائري سابق، بشكل صريح ولا لبس فيه، بأن الصحراء أرض مغربية، حين قال: "أنا في الحقيقة أعتبر من الناحية التاريخية أن الصحراء مغربية وليست شيئا آخر" هو إقرار وتأكيد لمغربية الصحراء، ليكون بذلك أول موقف لافت بعد سقوط الجزء الكبير من "منظومة بوتفليقة" التي تجر ماضيا مثقلا بالتعسف على الوحدة الترابية للمغرب أسس له الهواري بومدين بتواطؤ مع أنظمة إقليمية فاشية (القذافي)، واستكمله من جاؤوا بعده، حيث فبركوا "قضية" اسمها "القضية الصحراوية"، وانتعشوا عليها لعقود لتساعدهم على تصريف أزماتهم الداخلية ضدا على الوحدة الترابية للمغرب.

الملاحظة الخامسة: الإقرار الصريح لعمار السعداني بمغربية الصحراء، في الواقع ليس بالأمر المفاجئ، لكنه يثير حقيقتين في غاية الأهمية؛ الأولى أن ما يعنيه ويؤكده تصريح سعداني أن الجزائر طرف مباشر في مشكل الصحراء، فعمار ليس شخصا عاديا، بل كان قريبا من مراكز صنع القرار ونظريا كان جزء من الأنظمة السياسية في الجزائر، لاعتباره تقلد منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري من 2002 حتى 2007، حيث كان يترأس 389 عضوا منتخبا، كما كان أمينا عاما سابقا لحزب "جبهة التحرير الوطني الجزائري"، الذي ظل يحكم الجزائر ولو نظريا منذ استقلالها، لقد كان هذا الحزب بمثابة حزب السلطة الأول لأكثر من خمسة عقود، ويعتبر الجناح السياسي للسلطة التي كانت تحكم فعليا في البلاد.

لذلك فعمار سعداني بمثابة شاهد مباشر (وشهد شاهد من أهلها) على ما كانت تعنيه علاقة الجزائر مع ملف الصحراء، فقد أسقطت تصريحاته العلنية والصريحة أطروحة/كذبة "دعم الشعب الصحراوي لتقرير مصيره"، فتفاعل نظام بوتفليقة ومن سبقوه في هذه القصة قد يعني كل شيء إلاَّ أسطورة "الدفاع عن شَعْبٍ لِيُقَرِّر مصيره"، وعليه فتصريحات سعداني إقرار من قيادي جزائري عايش فترات مهمة بجوار صنع القرار بأن النظام الجزائري يشكل طرفا حقيقيا في ملف الصحراء، وهي المسؤولية التي ظل يتملص منها لعقود، وقد يكون هذا التصريح بمثابة إعلان نوايا حسنة، وكمدخل حقيقي وانخراط جدي لمعالجة هذه القضية من طرف المسؤولين الجزائريين تفاعلا مع سياسة اليد الممدودة التي أطلقها الملك محمد السادس، وانسجاما مع مطلب الشعبين الشقيقين بحل الحدود وإزالة الحواجز.

الحقيقة الثانية هي أن سعداني كان يترأس مؤسسة برلمانية من المفترض أنها تراقب الأموال العمومية وأين تنفق والجهة التي توجه لها؟ إذن كيف يُسمح داخل المجلس الشعبي الوطني بتخصيص نفقات من أموال الشعب الجزائري لتمويل "منظمة تسمى البوليساريو لأكثر من 50 سنة!؟".

لا يهمنا هنا كيف تشتغل المؤسسات الجزائرية، بقدر ما يهمنا أن التمويل موجه من الجزائر لفائدة كيان يعتدي على المغرب ويهدد الوحدة الترابية لبلد جار، بل هذا الكيان بمرتزقته قتل آلاف الجنود المغاربة ظلما أثناء دفاعهم عن وطنهم وأرضهم في الصحراء، وأيضا كونه تمويلا موجَّها لتنظيم يحتجز آلاف المغاربة الصحراويين وفَوْق الأراضي الجزائرية في تندوف!

في المقابل، إذا كان هذا التمويل تقدِم عليه جهات ما دون أن توافق عليه المؤسسات الرسمية في البلاد، فهذه مسألة ربما أخطر، وفي جميع الحالات فالتمويل لا يتم بشكل مجاني، بل بالضرورة وفق شروط أو لتنفيذ أجندات، وقد يصطبغ بطابع "إنساني" أحيانا، هنا يُطرح السؤال ماذا كانت قيادة البوليساريو تعمل بهذه التمويلات؟!

جزء من الجواب جاء على لسان عمار سعداني: "الأموال التي تُدفع لمنظمة البوليساريو، والتي يَتجَوّل بها أصحابها في الفنادق الضخمة منذ 50 عامًا...".

إن هذه التصريح يؤكد فساد قيادة البوليساريو، وأكثر من ذلك متاجرتها بمعاناة المحتجزين في تندوف، وبما يقدم لهم من إعانات إنسانية من منظمات دولية متمثلة أساسا في الغداء والدواء. إن التهرب من إحصاء ساكنة المخيمات (إحصاء طالبت به معظم قرار مجلس الأمن وكان آخرها القرار 2494) لَدليل على أحد الطرق القذرة التي تنتهجها قيادة البوليساريو لاستدامة الضبابية والغموض على من وكيف "توزع" المساعدات الإنسانية الدولية على سكان المخيمات!!

فالتقارير الدولية تشير إلى أن معظم ما يتم إرساله إلى مخيمات تندوف على أساس أنه مساعدات إنسانية، يتم السطو عليه من طرف مافيات من يعتبرون أنفسهم يمثلون الصحراويين المحتجزين في تندوف لبيعها في الأسواق، وهذا ما أكدته خلاصات تقرير "المكتب الأوروبي لمكافحة الغش" حول المساعدة الغذائية المقدمة من طرف الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لساكنة تندوف في جنوب غرب الجزائر.

فقد تبين للمكتب الأوروبي أن هناك اختلاسات كبيرة للمساعدات، خاصة وأنه رَصَد العدد الحقيقي لنسبة الصحراويين في مخيمات تندوف، وتبين أنه لا يتجاوز 91 ألف شخص، بمعنى أن الاتحاد الأوروبي كان يقدم مساعدات إضافية لقرابة 64 ألفا من الأشخاص الوهميين، بحيث إن البوليساريو كان يدعي دائما أن الأمر يتعلق بـ 150 ألف شخص، وبالتالي خلص التقرير إلى أن الفائض يباع في أسواق في مالي وموريتانيا...!!

لذلك فتصريحات عمار سعداني تذهب في اتجاه تأكيد وجود عصابة منظمة (قيادة البوليساريو) تستغل أوضاعا إنسانية للمحتجزين الذين يتعذبون ويموتون من شدة الجوع والعطش والأمراض والتعذيب... وتوهم المجتمع الدولي بمعطيات وأرقام وفواتير خاطئة ومزورة للاغتناء. لذلك، فقد آن الأوان أن تصدر مذكرات بحث دولية لاعتقال من يسمون قيادة البوليساريو لتقديمهم للمحاكمة حول مختلف هذه الجرائم الخطيرة.

الملاحظة السادسة: إن تصريح هذا الرجل السياسي والقيادي الحزبي ورئيس سابق للغرفة الأولى في البرلمان الجزائري، يؤكد موقفين مهمين وأساسيين؛ الأول نستطيع أن نقول إنه موقف الشعب الجزائري، لماذا نقول الشعب الجزائري؟ بكل بساطة لم يسبق شعبيا أن خرج الجزائريون في تظاهرة مساندة لأطروحة الانفصاليين، أو مساندة لما يسمى "الجمهورية الصحراوية". الثاني يعود لسياسيين آخرين كالقيادية في حزب العمال الجزائري لويزة حنون، وآخرين من مثقفين وصحافيين ورياضيين ناصروا الوحدة الترابية للمغرب.

الملاحظة السابعة: إن "تردد" القيادتين السياسية الحالية والعسكرية في رد الفعل على ما صرح وأقر به عمار سعداني، يُعَد تعبيرا ضمنيا على أن النظام الجزائري بلغ إلى قناعة تفيد بأن ما يقوله رئيس المجلس الشعبي الجزائري السابق يتقاطع مع ما تفكر وتتطلع إليه الدوائر العليا في السلطة الجزائرية الحالية، وخاصة رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، فالعديد من القراءات تفيد بأن هناك تقاربا بين هذا الأخير وسعداني.

فقد ندرج هذه المعطيات في نطاق التفاعلات الإيجابية من طرف القيادة الراهنة التي بدأت تعمل على تصحيح الموقف الرسمي الجزائري تجاه الوحدة الترابية للمغرب، تصحيح سوف يستمد قوته دون شك من تأثير الشعب الجزائري الذي سيكون حاسما في هذا الموضوع، فموقف أصحاب القرار في الجزائر سيتطور نحو الأفضل لمعالجة أوضاع مفتعلة كلفت المغرب والجزائر الكثير، وعرقلت أي تقدم أو تكتل في المنطقة كان سيستفيد منه شعبا البلدين.

لذلك نعتقد أن هذه "الخرجة الإعلامية" لعمار سعداني لم تكن عشوائية، بل نستطيع القول إنها تُجَسِّد تصورا محدَّدا ينطوي أساسا على استعداد جزائر المستقبل للدخول في إمكانية العمل على طي ملف الصحراء المفتعل الذي عرقل ويعرقل المسار الاقتصادي والتنموي، ليس فقط للجزائريين بل لجميع "منطقة المغرب العربي"، خاصة في ظل الديناميات التي تعرفها دولها المتطلعة إلى تغيير إيجابي يرفع من رصيدها ومكانتها إقليميا ودوليا.

 

محمد أشلواح