كما يجري من الحكمة في مثل اللغة: سيد القوم خادمهم، ومن العرفان بالخدمة جاء العنوان باسم التكريم الشرفي الذي أطلقه المغاربة حين تحرير بلدهم على يد شخصية الملك محمد الخامس، الذي جاءت طلعته بالعودة من المنفى على المغرب بالاستقلال، بعد أن كان يجري اسمه على الألسنة في عهد الحماية من اسم أمير المؤمنين السلطان المعظم سيدي محمد بن يوسف، خوفا على شخصه من تبعات سلطات الحماية، التي تدير وقتها الشأن العام للبلد، وإن كان شخصه أسمى من السلطة.

وحين استنهض خادم الشعب في المغاربة أن طلب الاصلاحات التي ينشدونها من سلطة الحماية تقتضي منهم أولا طلب الحصول على السيادة الوطنية والاستقلال، يومها قامت سلطات الحماية بنفيه وأسرته خارج البلاد.

ومن ثم تحركت الروح الوطنية في المغاربة، وقاموا بالتظاهر في الشارع العام، والدعوة إلى رجوع السلطان إلى وطنه، ومباشرة الحوار معه في شأن مستقبل البلاد.

وحين عودته من المنفى، دفع المغاربة إلى مفاوضة الفرنسيين من اجل طي صفحة الحماية، والاعتراف باستقلال البلاد، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الدولية بين البلدين.

الملك محمد الخامس

قاد الكفاح الوطني الذي توج باستقلال المغرب، ووضع اللبنة لتأسيس حكم ديمقراطي، من تربية ولي عهده على القيم الديمقراطية، يوم أملى عليه واجبات الحكم من قوله: يجب أن تكون عصاميا قبل أن تكون أميرا.

ومن حصافة رأيه أسس للحريات العامة، وأعطى الانطلاقة للصحافة المغربية من حكمته المأثورة: الخبر مقدس والتعليق حر.

عرف الملك محمد الخامس بقوة العريكة وتحرر الشخصية، وانفتاح السريرة ولين الجانب، والرأي الحصيف، من الثقافة الرصينة، وصدق من قال في شخصيته: لو لم يكن ملكا، لكان عالما، له من العلم المكانة الرفيعة.

وخلال فترة حكمه عرف ملكا وأميرا للمؤمنين، يتم الرجوع إليه في أمور الشرع، وأحكام الوضع، من الظهير الشريف، والمبادئ الدستورية، كان واسع الاطلاع من العلم مدركا من الثقافة من تربية ولي عهده تربية ثقافية لأجل المغاربة، ومن حبه للوطن أنشودة السلام، التي حبب منها للمغاربة حب الوطن.

كما عرف المغاربة من عهد عودته، وحصول البلد على الاستقلال، اسم الوطنيين، الذين تم تكريمهم أحياء وأمواتا من المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.

رؤية ملك الاستقلال

من عهد الملك محمد الخامس عرف المغاربة اسم الملك الذي حل محل اسم السلطان من مغرب الاستقلال، بعد أن كان يعرف من قبل باسم سلطان السلام-يحكم من القصر، والسلطة تحكم من الساحة الاجتماعية-وكانت رؤيته مقصورة على أمور الرعية من الأعيان والجهات المخزنية بالقصر، والمسجد السلطاني.

وحين حصول المغرب على الاستقلال، أصبحت رؤية الملك متاحة للعموم، من خلال زيارته الرسمية في خرجات عامة إلى المدن والقرى للاطلاع على الأحوال الاجتماعية للأماكن التي يقوم بزيارتها.

ويومها كانت رؤية الملك تتم من طرف العموم، يوم خروجهم إلى الشارع العام، في إطار الاستعداد لاستقبال رسمي يخصص لمقدمه، تحف موكبه الفرق التصويرية والصحفية وعلى رأسها وقتذاك بعثة إذاعة المملكة المغربية.

وقد لقي ظهور الملك في زيارات رسمية إلى المدن التي يزورها والقرى التي يعبرها، إقبالا بشريا منقطع النظير من الاستقبال لتشوف المغاربة اللافت لرؤية ملكهم.

مشاركة الأطفال في استقبال الملك

ذكرتني المشاركة يوم رؤية الملك بأيام الطفولة، واستقباله بالورود اليانعة، وكمشاهد من ضاحية المدينة وقتها، أثارتني البادرة من فقيه الجامع بالجماعة، مواكبة منه لجموع الجماعة يوم أخطرت الساكنة بأن الملك سيمر من الطريق الرئيسية للدخول الرسمي إلى المدينة.

كان وقتها فقيه الجامع على رأس الطلبة، للمشاركة في الاستقبال، يحدوه جانبا طلبته المحضرة بالجامع القرآني، حيث توجهت الجموع رجالا ونساء وأطفالا نحو الطريق الرئيسية التي سيمر منها الملك في موكب رسمي.

وخلال مرحلة الانتظار على جنبات الطريق، تلبدت السماء بالغيوم، وراحت قطرات المزن تمطر من السماء، عندها أرسل الفقيه ابنه إلى بيته ليأتيه بكساء يحمي به الأطفال من هطول المطر. وخلال حضور الكساء، قام بنشره على الصف من فوق رؤوس الأطفال.

أما الكبار فكانوا محلقين رؤوسهم ووجوههم، ومزيني الهندام من رؤيتهم، يحملون الأعلام الوطنية، ولسانهم ينشد من الصف جهارا:

عاش المغرب حرا لنا *** دائما أرضه ملكا لنا

اعملوا تنالوا واهتفوا وقولوا *** المغرب لنا لا لغيرنا

أما تجمعات النسوة خلال الاستقبال، وعند سماعهن النشيد الوطني يردد على الألسن، فقد كانت تعلي السنتهن زغاريد الفرحة بالاستقبال والسماع.

وحين قدوم الملك، فإن مجيئه يحرك الجماهير المحتشدة، في تدافع تشرئب منه الأعناق وتتحلق منه الأنظار، إذ تراها مزدحمة تحيي ملوحة بالأيادي، وحناجرها تهتف باللسان الجماعي: عاش الملك...، عاش المغرب حرا مستقلا.

بينما الملك، يلوح إليها قائما من وسط الموكب بيديه من سيارته المكشوفة، ويمر الاستقبال دون أن يفطر اللسان من العموم على الحديث عن رؤيته، ولسان الصحافة عن زيارته.

وعهد استرجاع المغرب الأقاليم الجنوبية من الإدارة الاسبانية، برأي استشاري من محكمة العدل الدولية، ودعوة الملك الحسن الثاني لتنظيم مسيرة خضراء نحو الصحراء، في شكل مقاومة سلمية للمطالب المغربية.

إثرها، وبعد استرجاع المغرب الأقاليم الجنوبية، زار الملك المنطقة، ولقي الاستقبال العام والترحيب من الأهالي الذين كانوا يحيونه من الموكب الرسمي، بالتلويح بالأيادي وبالنداء الجماعي من لسان العموم: يحيا الملك... الله يحييك يا الملك ... الله يحييك. ومفهومها اللغوي: حياكم الله يا ملك.

وعلى الصعيد الوطني والدولي، جاء عهد جلالة الملك محمد السادس بمفهوم جديد للسلطة، تجلى في التأسيس لدولة المؤسسات، والجهوية المتقدمة، والحكم الذاتي على مستوى الأقاليم الصحراوية.

وعودة إلى استحضار زمن الطفولة من معاينة الموكب الملكي، ومروره من الطريق الرئيسية، لم أكن وقتها أعرف مشاهدة غير دراجات الخفر، وركاب الفروسية من الجماعة وهم على ظهور جيادهم، يحفون بالخفر الموكب الملكي واحدا تلوى الآخر من جانبي الطريق.

وعهد استحضار المعرفة من طرح السؤال عن حياتي العائلية من ذاك الاستقبال، سألت والدي عن تلك الحقبة من زمن الطفولة وسط الجماعة التي بقيت عالقة بذاكرتي، فأجاب بأن الاستقبال بأفواج الفرسان كان على مستوى فرحة الجماعات القروية، وأنهم يخفرون الموكب الملكي من منطقة طلعة الموكب إلى منطقة توديعه، في حدود مسافة كلم سابقة عن مكان التجمع السكاني، وكلم خارج مكان التجمع، وزاد قائلا إنه استقبال على مستوى القيادة، وجماعات الساكنة، وإن ذلك الخفر الجماعي المنظم للترحيب بقدوم الملك امتد من ضفة أم الربيع إلى ضفة نسيفة، ويعود الزمن إلى العهد القيادي والسلطاني من حياة جلالة السلطان المعظم الملك محمد الخامس.

وخلال أيام الدراسة الابتدائية، كانت صور الملك تزين واجهات دفاتر الكتب المدرسية، كما تأخذ الصور مكانها من مواضيع مطبوعات القراءة، وهي من بدلات مدنية وعسكرية، تحمل اسم الملك محمد الخامس بطل التحرير.

 

محمد حسيكي