أثارت واقعة إحراق العلم الوطني على هامش المسيرة التي نظمت بباريس يوم الأحد 27 أكتوبر 2019 من أجل المطالبة بإطلاق سراح معتقلي "حراك الريف"، وفي مقدمتهم ناصر الزفزافي، من طرف ناشطة شاركت في المسيرة، استنكار العديد من الفعاليات السياسية والحقوقية واستهجان مكونات الرأي العام المغربي، ما انعكس من خلال الردود الغاضبة التي انتشرت في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.

ولعل واقعة إحراق العلم المغربي تنضاف إلى وقائع سابقة تمثلت في تمزيق جوازات سفر بعض النشطاء بهولندا تعبيرا عن احتجاجهم على سياسة نظام نعتوه بالسلطوية، ورفضهم الخضوع لقراراته الجائرة في نظرهم. ولعل هذه التصرفات الاحتجاجية والمستفزة للشعور الوطني تخلط بين النظام الذي يمكن أن نحتج على سياساته وقراراته التي قد تكون تعسفية وجائرة، وبين ثوابت الدولة ورموزها التي تعتبر بمثابة المشترك السياسي بين كل المغاربة وأجيالهم الماضية والحاضرة والمتعاقبة .

العلم وتبلور الشعور الوطني

على غرار الدولة العصرية التي تبلورت في أوربا وأمريكا من خلال الاستناد إلى مجموعة من الرموز السياسية التي حاولت كل دولة أن تتميز بها؛ استند ميلاد الدولة العصرية بالمغرب على اقتباس مجموعة من الرموز السياسية التي تجسدت بالأساس في العلم الوطني الذي جسد الهوية التاريخية للمغاربة، ورمزا من رموز الهوية السياسية للدولة بالمغرب.

الراية المغربية وتجسيد الهوية التاريخية

منذ أن أعاد المرابطون توحيد الدولة بالمغرب في منتصف القرن 11 الميلادي؛ تم التركيز بالأساس على تمييزها براية خاصة ذات لون متميز، ليتم بعد ذلك تكريس هذه الرمزية من طرف باقي الأسر الحاكمة التي توالت على حكم البلاد.

وفي هذا السياق، كتب أحد الباحثين ما يلي: "استعملت الراية كرمز للدولة في المغرب لأول مرة على عهد المرابطين (1056 – 1147). قبل حكم المرابطي، كانت الرايات عبارة عن ألوية من الحرير الأبيض ترفع خلال المناسبات والأعياد، وتكتب عليها آيات قرآنية عندما يحملها الجنود في ساحة المعركة، لكنها لم تكن تختلف كثيرا عن الألوية التي يستعملها المسلمون في الشرق. وأعطى يوسف بن تاشفين بعدا مغربيا للعلم المرابطي، وركز على رمزيته في الحروب التي أوصلت نفوذه إلى الأندلس، بعد أن أخضع نظام حمل العلم أثناء المعارك إلى بروتوكول محكم، يقضي بأن يرفع كل مائة جندي علما أبيض؛ فيما يحمل قادة الجند راية كتبت عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله...". الموحدون والسعديون حافظوا بدورهم على الألوية البيضاء، فيما أضاف المرينيون إليها نجمة سداسية في الوسط".

الراية الوطنية وتجسيد الهوية السياسية

يعتبر العلويون أول من استعمل الرايات الحمراء بعدما تمكن المولى الرشيد (1666 – 1672) من إخضاع القبائل البربرية في الأطلس وفي كثير من أطراف البلاد؛ ففي بداية القرن السابع عشر استقر الأندلسيون في الرباط وأسسوا جمهورية مستقلة شعارها الرسمي علم أحمر، وبعد أن ضم العلويون هذه المدينة إلى ممالكهم بدأ العلم الأحمر يفرض نفسه تدريجيا كشعار رسمي لهذه الأسرة الحاكمة، إذ عادة ما كان هذا العلم بلونه الأحمر يحمله الحرس السلطاني في تحركات السلطان بين أطراف السلطنة.

وأجبرت هزيمة إسلي سنة 1844 سلاطين المغرب على نهج سياسات تحديثية ولو على نطاق ضيق، ما أدى إلى تغلغل العديد من الأفكار السياسية الغربية في الأوساط المغربية، لاسيما كل ما يتعلق بالوطن والمواطنة؛ فقد أخذت معاني بعض الشعارات تتغير رويدا رويدا، إذ لم يعد العلم يعكس مركزية الحاكم بل أصبح رمزا وطنيا يبين مركزية الدولة-القومية. وهكذا ترجع فكرة جعل العلم الأحمر شعاراً وطنياً حسب الوثائق المتوفرة إلى سنة 1906، إذ قدم الفقيه علي زنيبر مذكرة تدعو إلى إصلاح المخزن عنوانها "حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال" إلى السلطان عبد العزيز، حيث يؤكد المؤلف في موضعين مختلفين أن العلم الأحمر هو رمز استقلال المغرب والمساواة بين أهله. لكن يبدو أن الراية لم تتحول إلى رمز وطني يشمل أنحاء البلاد إلا بعد إرساء مكونات الدولة العصرية مع خضوع البلاد للحماية، إذ لم تمنع مطالب ومحاولات الإصلاح الخجولة وعمليات المقاومة المغرب من السقوط تحت براثن الاستعمار الفرنسي.

وهكذا خولت معاهدة فاس الموقعة سنة 1912 صلاحيات واسعة للسلطات الفرنسية من أجل حماية وتحديث المغرب. وقد كان من بين المهام التي أوكلت للمقيم العام اختيار علم جديد يميز المغرب عن باقي الدول، خصوصا في المحافل الدولية. لكن ليوطي ومعاونيه رفضوا اعتماد العلم الأحمر لأنه يعود لفترة ما قبل الاستعمار، ويشبه شعارات الحركات اليسارية، ليتم الاتفاق بعد مشاورات طويلة على وضع نجمة خماسية خضراء وسط العلم الأحمر. وفي هذا السياق قام الماريشال ليوطي بحمل السلطان مولاي يوسف على التوقيع على ظهير يتعلق بالراية المغربية كرمز من رموز الدولة العصرية بالمغرب. وبهذا الصدد كتب الصحفي جمال بدومة ما يلي: "طوال قرون، لم يكن حكم السلطان يسري على مجموعة من القبائل، وظلت ثنائية "السيبا" و"المخزن" تؤطر النظام السياسي، قبل أن يأتي الماريشال ليوطي ويثبت مشروع الدولة الحديثة، عن طريق تقوية السلطة المركزية، وتثبيت دعائمها في مجموع تراب المملكة الشريفة، وتكريس الطقوس والبروتوكولات المخزنية. وليس غريبا أن يكون الماريشال وراء إحداث الراية المغربية والنشيد الوطني، كما نعرفهما اليوم. كان ليوطي ملكيا في خدمة جمهورية؛ لذلك وجد ضالته في المملكة المغربية بعد توقيع معاهدة الحماية، وتعيينه حاكما عاما.. أخيرا سيضع أفكاره الملكية قيد الإنجاز..أزاح بسرعة مولاي حفيظ عن الحكم، ووضع مكانة أخاه الطيع مولاي يوسف، كي يسرع وتيرة توقيع الظهائر من أجل إرساء مملكة المخزن الشريف، في نسختها المعاصرة. أول الإجراءات، تمثل في حمل السلطان مولاي يوسف على توقيع ظهير يتعلق بالراية المغربية، في 17 نونبر 1915، جاء فيه: "نظرا للتقدم الذي أحرزته مملكتنا الشريفة، وباعتبار الشهرة الواسعة التي حققتها، وسعيا لإعطائها رمزا يميزها عن بقية الأمم، وكي لا تختلط الراية التي وضعها أجدادنا مع أعلام أخرى، وعلى الخصوص تلك التي تستعمل في البحرية، قررنا أن نميز رايتنا بتزيينها في المركز بخاتم سليمان ذي الرؤوس الخمس بلون أخضر"؛ ومن ثمة أصبحت الراية المغربية الشريفة، "ومازالت حمراء قررها الظهير الشريف المؤرخ في 17 نونبر 1915 (9 محرم 1334 ) الذي نص على أن تكون للمملكة المغربية راية حمراء وفي وسطها خاتم سليماني أخضر اللون ذو خمس زوايا. ومن المعلوم أن الشعار المغربي هو الخاتم السليماني المخمس الأخضر الأطراف". ومنذ ذلك الحين، كما كتب بنشنهو، "رفرفت بفضل الله الراية المغربية على الدوام حتى في عهد الاحتلال الأجنبي سواء في الجنوب أوفي الشمال"، حيث تحولت هذه الراية إلى رمز رسمي من رموز الهوية السياسية للبلاد.

وقد تبنت الحركة الوطنية هذا العلم منذ تبلورها في مطلع الثلاثينيات من القرن 20، إذ احتل مكانة مهمة في كل التظاهرات التي خاضتها ضد سلطات الاحتلال، وكذا في بعض المناسبات الرسمية كعيد العرش؛ ولعل هذا ما دفع بالملك محمد الخامس إلى تبنيه نهائيا سنة 1947، حيث أمر برفعه فوق أحد أجنحة قصره في الرباط، لتصير الراية الحمراء التي وسطها نجمة سداسية خضراء ترفع في الصباح وتنزل في المساء على أبراج مختلف المدن المغربية. وبعد الاستقلال حظي العلم الأحمر بتكريس دستوري حينما جعل منه القانون الأساسي للمملكة في فصله السابع الشعار الوطني بامتياز، وهو ما أكده فيما بعد أول دستور للمملكة وباقي الدساتير التي أعقبته.

إحراق العلم وإثارة الشعور الوطني

لقد سن المشرع المغربي مجموعة من الإجراءات الزجرية في حق كل من أهان العلم الوطني، إذ تم مؤخرا اعتقال مواطن فرنسي ظهر في شريط وهو يلتحف العلم المغربي ويقوم بحركات غير أخلاقية، وأحالته النيابة العامة على المتابعة في حالة سراح، بتهمة "إهانة العلم المغربي"؛ وبالتالي فإحراق إحدى ناشطات الحركة الأمازيغية للعلم الوطني بفرنسا، إذ كان قد جنبها ملاحقتها قضائيا لتواجدها خارج التراب الوطني، فإن هذا لم يمنع من أن هذه الواقعة كانت لها ردود فعل عنيفة من طرف مختلف مكونات الرأي العام المغربي.

رمزية الإحراق وإيذاء الشعور الوطني

إن لجوء هذه النشيطة الأمازيغية إلى إحراق العلم الوطني كان يبطن في طياته التعبير عن قطع العلاقة السياسية التي تجمع بين هذه الناشطة والبلد الذي تنتمي إليه؛ وذلك على غرار ما قام به بعض الشباب بهولندا بتمزيقهم جوازات سفرهم المغربية، معلنين تخليهم عن الجنسية التي تربطهم بالمملكة وعن شرعية النظام الذي يحكم بالبلاد، معتبرين إياه نظاما مخزنيا وجائرا ينتهك حقوق المواطنين، بمن فيهم النشطاء المعتقلون على خلفية أحداث الريف؛ وبالتالي فعملية إحراق العلم لم تكن كما وصفها بعض نشطاء الحركة الأمازيغية سلوكا متهورا أو أرعن، بل إن ذلك تعبير عن انفصال ليس فقط فيزيقيا، بل هو تعبير عن انفصال سياسي عن البلد المنتمي إليه.

لكن هذا التعبير التمردي والانفصالي يخلط بين أمرين رئيسين؛ بين التمرد على النظام وانتقاد سياسته وبين احترام رمز سياسي مشترك تطلب الكثير من التضحيات لبلورته والدفاع عنه؛ فبالإضافة إلى أنه يشكل رمزا لهوية سياسية لكل المغاربة، سواء داخل البلاد أو خارجها، فهو رمز ضحى من أجله العديد من شباب المغرب، سواء في مواجهة رصاص قوات الاحتلال، أو في الدفاع عن حدود البلاد واسترجاع أراض تابعة للمملكة؛ ومن أجله سقط جنود وضباط قتلى. كما حرصت العديد من الفعاليات الفنية والرياضية والأكاديمية في كل تتويج أن تتلفع بالعلم الوطني كتعبير عن الروح الوطنية والتركيز على الانتماء إلى هذا الوطن وحبه؛ وبالتالي فقد أجمعت كل الفعاليات بمختلف أطيافها ومنحدراتها الاجتماعية والجغرافية على إدانة هذا العمل الذي وصف بالشنيع، معتبرة ذلك مسا بالسمعة الوطنية.

وعموما فإن إحراق العلم الوطني إذا كان حرك الشعور الوطني وأثار استياء كل مكونات المجتمع المغربي بكل أطيافه وحساسياته، فقد نبه إلى ضرورة الابتعاد في أي مسيرات شعبية أو تظاهرات احتجاجية، خاصة داخل المغرب، عن أي إساءة إلى الشعور الوطني، سواء بالنسبة للمغاربة أو لشعوب أخرى؛ إذ ليس من المقبول أن يتم إحراق أعلام دول أجنبية رغم عدم الاتفاق أو انتقاد سياسات حكامها وقرارات حكوماتها، فعدم الاتفاق مع سياسة الإدارة الأمريكية أو أي حكومة أجنبية أخرى لا يبرر إحراق علم الشعب الأمريكي أو دوسه بالأقدام، في وقت يمكن إحراق صورة رئيس أو وزير أو أي مسؤول أجنبي آخر؛ لأن هؤلاء زائلون أما العلم فهو باق ممثلا لهذا الشعب أو ذاك. فكل الشعوب لا تستسيغ، تحت أي مبرر من المبررات، سواء كانت سياسية أو غيرها، أن تهان كرامتها السياسية من خلال تدنيس رموزها الوطنية، وعلى رأسها الأعلام الوطنية. كما أن أي شخص، سواء كان أوربيا أو أمريكيا أو آسيويا أو إفريقيا، فإنه لا يقبل أن يرى علم بلاده وهو يحرق أو يداس بالأقدام في أي مسيرة شعبية أو تظاهرة احتجاجية تنقلها وسائل الإعلام أو القنوات التلفزية والفضائيات عبر ربوع العالم؛ إذ إن أي علم لا يشكل رمزا سياسيا فقط مرتبطا بنظام أو دولة، بل هو قبل كل شيء حمولة تختزن كل التراكمات التاريخية والمعالم الحضارية والخصوصيات الثقافية والتضحيات السياسية لأي شعب من الشعوب.

 

د. محمد شقير