لبنان..أيها الجبل العالي:

في لبنان اليوم لا توجد غير طائفة واحدة في وطن واحد؛ والفضل في فيض المحبة هذا – والمحبة عملة نادرة في وطننا العربي- يعود إلى الطائفية إياها، التي شاخ فيها الفساد، حتى غدا ريعا يوزع بالمحاصصة.. كم أئمتك ورجالُك وعتادك؟ إذن خذ هذا وهذا وزد هذا.

أنت حزب الله؛ إذن لبنان كله لك، افعل به كل الأفاعيل التي تشاء.

أنت ماروني، أنت سني، أنت من البدون..كلّ له نصيب من هذه الخريطة التي لا تشفى جروحها.

لقد طحنت رحى الطائفية كل قمح لبنان وشعيره وتفاحه وبرتقاله، حتى لم تعد تجد ما تطحن، فطحنت أشلاءها، وزناجيرها.

منذ الاستقلال ترسخت – بفعل مرسخين - قناعة استحالة الدولة الوطنية المدنية؛ وكأن دول النجاح الديمقراطي في العالم لا طوائف بها؛ حية أو ميتة.

تأسست لبنان الاستقلال على استحالة الوطن؛ إلا بألوان الطائفية..لرئاسة الجمهورية لون، لرئاسة الحكومة لون، ولرئاسة البرلمان لون آخر.

وانتهى اللون الأصفر، بفضل المدفع الرشاش، إلى أن يكون لون الألوان..

وانتهت الأحزاب الى أن تصبح ذوات رايات ليس إلا.

من الفحل؟ إنه الرشاش. من يحوز حصة الأسد في البرلمان والحكومة؟ الرشاش.

وأين جيش الدولة؟ وهل يكون للدولة الطائفية جيش واحد موحد؟.

لقد أجمع زعماء الطوائف على ألا يكون للجيش اللبناني رشاش.

لا رشاش يعلو على رشاش حزب الله.

وطُرح سؤال: أيهما الأفضل؛ دولة طائفية مرتخية مرتشية، تعب الطوائف من ريعها عبا جما؛ بدون حرب وقتال العدو المجاور والمتربص، ما دام فحل الفحول منتصبا برشاشه، أم دولة المواطنين، المنتصبة بكل عنفوان في وجه الريع والترويع الإسرائيلي؛ وفي وجه دولة الملل والنحل؟.

فكان أن قيل: النوم أفضل من الصلاة؛ مادام هناك من يؤذن ويصلي نيابة.

الوطنية، كما الصلاة، جعلت فرض كفاية، في شريعة هذه الدولة الجبلية الرائعة، لولا ترويع الطائفية؛ حتى لا تتحضر أكثر من اللازم، حتى لا تتجاوز الحد المسموح به للعالم العربي، عدو الأمس واليوم والغد، للنافذين في هذا العالم.

ألا تذكرون؟ كلنا تتلمذنا في لبنان، في كتب لبنان، وروايات لبنان وأشعاره ومعاجمه.

جيلي لم يكن يعرف غير المعرفة القادمة من لبنان؛ قبل مصر.

لطالما تساءلت زمن التلمذة هذه: كيف، مسيحيون يؤلفون المعاجم العربية؟.

وفي لبنان جبران خليل جبران العالمي، وميخائيل نعيمة، صاحب "عم صباحا يا نعيمة"، النص القرائي المشهور..

أكل هذا في لبنان؟

وفي لبنان حتى الحراك يغني:

نعم لما شعر الشعب اللبناني، وليس سنيوه ومسيحيوه وشيعته، بأن الرحى الوحش لم تعد تطحن غير جوفها الحديدي الفارغ، خرج إلى الشوارع ليمارس تنظيف قاذوراته بنفسه، وليطحن أصحاب الرحى داخل رحاهم.

فعلها الشعب اللبناني لكن بتميز عن كل شعوب الحراك العربي.

ولم تعد تعرف هل أنت إزاء حراك شاكي العضلات والأسنان، أم في عرس لمواويل لبنان وعريسها صاحب:

ليس في الغابات راع ولا فيها القطيع.

فالشتا يمشي ولكن لا يجاريه الربيع.

خلق الناس عبيدا للذي يأبى الخضوع.

فإذا ما هب يوما سائرا سار الجميع.

أعطني الناي وغن فالغنا يرعى العقول

وأنين الناي أبقى من مجيد وذليل.

ليل لبنان طويل في الطائفية، وطويل في هذا الحراك الراقص.

لقد تزين الحراكيون بشبابهم، وبأبهى الحلل، ونزلوا إلى شوارع المدن كلها ليرقصوا، وإن على صفيح ساخن.

ليس للغانيات جر الذيول، كما ذكر الشاعر العربي، وهو يجعل الحرب قدرا مسلطا على الرجال.

خرجن شقراوات وسمراوات، بأبهى حللهن الخريفية، ليرقصن في عرس السياسة وجنازة الطائفية.

"كلن يعني كلن":

خذوا ريعكم، مزارعكم وقصوركم، وارحلوا عنا..

خذوا كل شيء واتركوا لنا الوطن، بلا طوائف.

لا حاجة لنا بذوات الرايات من الأحزاب، المستكينات في انتظار الفحل الرشاش.

لا ألوان تعلوا على لون الوطن، وطن الأرز والتفاح، ووديع الصافي وصباح، الراقصة حتى في موتها.

خذوا كل شيء إلى كهوف طائفيتكم واتركوا لنا مواويل حب الوطن.

إن التاريخ، كما العرق، دساس..له منعرجات لا يتوقعها حتى من يسوق صاحيا، بله السكران.

فجأة فإذا بحسن نصر الله، الشاكي الفحولة، ينصح ويستعطف، وهو الذي كان يملك ناصية الصحو والمطر.

وإذا بالحريري، يتحول إلى حصيري؛ ويزف استقالته إلى قصر بعبدا.

وإذا بميشال عون لا يدري أيكون مع الحراك الفاعل أم مع المفعول بهم من ساسة لبنان.

ويستمر الموال الشجي، الصحيح نحوا ولغة: "كلن يعني كلن".

ما أحلاها، حينما تنكتب فواصل لمواويل جبلية ترددها حسناوات لبنان، وفتيان جبل الأرز، وليس حولهم غير جيش لبنان المسالم والمحب، لأن الطائفية لم تترك له هيبة ولا سلاحا.

أويُحمل الرشاش في بلد يحتله حزب الله؟.

لا يا نصر الله؛ لا نصر اليوم إلا لمن نصره شعب لبنان، شعب الدبكة الواحدة، التي طولها مائة وسبعون كلم من الأكتاف الشعبية الراقصة.

ومازلنا نتتلمذ في مدارس لبنان.

 

رمضان مصباح الإدريسي