تمهيد:

أيد الله عز وجل أنبياءه ورسله بالمعجزات، فكانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، المعجزة الخالدة. ويعد الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم من أعظم أنواع الإعجاز التي لمسها العرب منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فبفضل تعاليم الإسلام وتشريعاته انتقلت القبائل العربية من قبائل بدوية متناحرة تشكو الجوع وضيق الحال والفقر إلى سادة الدنيا، فوصلوا بفتوحاتهم إلى حدود بعيدة شرقا وغربا، ونشروا العدل والمساواة، والعلم والمعرفة. كما يُعد الإعجاز البياني (البلاغي) من أهم أنواع الإعجاز، لأن العرب أهل الفصاحة والأدب والبلاغة، ومع كلما وصلوا إليه من بلاغة وفصاحة فقد عجزوا عن الإتيان بمثل سورةٍ من سور القرآن أو آية من آياته قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) سورة الإسراء، الآية 88 و8. قال تعالى: (فلعلك تارك بعض مايوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) سورة هود، الآية 12 و13.

وقد احتوت آيات المواريث في القرآن الكريم على إعجاز تشريعي وبياني نذكر بعضا من وجوهه في هذا البحث المختصر:

أ – الإعجاز التشريعي في المواريث الإسلامية:

إن المقصود بالإعجاز التشريعي إثبات عجز البشر جميعًا عن الإتيان بمثل التشريعات والأحكام التي جاء بها القرآن الكريم، والمتعلقة بالفرد والأسرة والمجتمع في كافة مجالات الحياة..إنه تشريع رباني متكامل لا يترك من أمور الحياة صغيرة ولا كبيرة إلا عالجها وقنن لها[1]. ومن وجوه هذا الإعجاز التشريعي في آيات المواريث نذكر:

- إن آيات المواريث في القرآن الكريم ليست إلا أربع آيات بينات محكمات، ولعل صياغتها بأسلوب بسيط وكلام قليل يعد وجها من وجوه الإعجاز التشريعي لهذه الآيات الربانية، فمع قلتها دلت على أحكام شرعية كثيرة ودقيقة وعظيمة، فضلا عما استنبطه العلماء منها من تشريعات وجعلوها علما قائما بذاته سموه علم المواريث أو علم الفرائض.

- إن التشريع الرباني لآيات المواريث راعى الفطرة البشرية في حب المال، وكافح الجريمة المتوقعة، وحافظ على الروابط العائلية والأسرية، وهذا وجه من وجوه الإعجاز التشريعي. فقد راعت الشريعة الإسلامية حب الإنسان للمال، لقوله تعالى: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" سورة الكهف، الآية 46. يقول الشاطبي: "إن أحكام الشريعة لا تتناقض مع الفطرة البشرية ولا تحاربها أو تكبتها، بل توجهها وترعاها بما فيه الصلاح والفلاح للإنسان في دنياه وأخراه"[2]، فالشريعة الإسلامية شرعت من الأحكام ما فيه حفظ لحقوق الناس المالية ولأملاكهم، فحرمت الغش والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل[3]، كما راعت الفطرة البشرية في تقسيم التركة بين الورثة والمورث الذي يحب أن ينتقل ماله بعد مماته إلى أقاربه بشكل يحقق العدالة بين جميع الورثة. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. وقد استنبط بعض العلماء من قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم فعلم أنه أرحم بهم منهم[4]، وعندما تتحول المحبة بين الوارث والمورث إلى عداوة كقتل أحد الأقارب مورثه بدافع استعجال الحصول على الثروة، فإن القاتل يحرم من الميراث ويعاقب بسوء نيته مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل شيئا»[5]، وتطبيقا للقاعدة الفقهية في حقه "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه".

لقد وضع الإسلام قواعد عامة للمواريث واحترم الملكية الفردية، وهذا من الدوافع التي تحفز الإنسان على النشاط والإنتاج والاستثمار، وبذل الجهد في تكثير المال وحمايته من التبذير والعبث. واحترام الإسلام للملكية الفردية لا يعني تركيز الثروة في أياد قليلة، فقد منع تكديس الأموال وتجميعها بإحداث نظام التوريث للأموال وتقسيمها بين الورثة من الذكور والإناث بنسب مفروضة ومحددة على الأصول والفروع والحواشي، ما يجعل الثروة تتفتت وتتوزع خلافا للنظم القديمة وبعض النظم الحديثة غير العادلة التي تجعل المال الموروث في أياد قليلة سواء وصية أو قانونا.

- ومن الإعجاز التشريعي في نظام الإرث أن الشريعة الإسلامية وازنت بين قوة القرابة والحاجة إلى المال، فأقرباء الهالك أحق الناس وأولاهم بثروته، كما وازنت بين حق الورثة وحق المورث، فجعلت الوصية في حدود الثلث، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابن عفراء، قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى فيّ امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون»[6].

ب- الإعجاز البياني (البلاغي) في آيات المواريث[7]:

عرف الرافعي الإعجاز البياني بأنه: "أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة"[8]، فإن تأملنا وتدبرنا في آيات المواريث سنجد جوانب كثيرة من الإعجاز البياني (البلاغي)، سواء تعلق الأمر بغزارة المعاني أو جزالة الألفاظ أو كليهما معا، أو بالفوائد الجليلة والأسرار البديعة. نذكر بعض جوانب هذا الإعجاز:

- قدم الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث الوصية والدين على الميراث، كما قدم الوصية على الدين، مع العلم أن قضاء الدين واجب والوصية مندوبة في أكثر أحوالها. قال الله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين)، وقال سبحانه: (من بعد وصية يوصين بها أو دين)، وقال تعالى: (من بعد وصية توصون بها أو دين) وقال جل شأنه: (من بعد وصية يوصى بها أو دين)، ولعل السر والله أعلم في تقديم الوصية على الدين هو التنبيه والحث على تنفيذ الوصية مخافة الإهمال. قال الجرجاني: "والنكتة في تقديم الوصية على الدين أنها تشبه الميراث في كونها مأخوذة بلا عوض، فيشق إخراجها على الورثة، فكانت لذلك مظنة للتفريط فيها بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فقدم ذكرها حثا على أدائها معه وتنبيها إلى أنها مثله في وجوب الأداء أو المسارعة إليه، ولذلك جيء بينهما بحرف التسوية وإيثار (أو) المفيدة للإباحة للدلالة على تساويها في الوجوب"[9]. وفي السياق نفسه قال العلامة الطاهر بن عاشور: "والقصد هنا التنبيه على أهمية الوصية وتقدمها، وأنكر الدين بعدها تتميما لما يتعين تقديمه على الميراث، مع علم السامعين أن الدين مقدم على الوصية أيضا لأنه حق سابق في مال الميت، فموقع عطف (أو) موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرر الله سبحانه هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات"[10]. وقد التفت الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله إلى فائدة جليلة من خلال تأمله في قول الله سبحانه وتعالى: (من بعد وصية يوصين بها أو دين) فقال: "وأعقب الله سبحانه وتعالى فريضة الأزواج بذكر (من بعد وصية يوصين بها أو دين) لئلا يتوهم متوهم أنهن ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية"[11]. وارتباطا بموضوع الوصية فقد جاءت جملة (غير مضار) وجيزة ومختصرة في وصية إرث الكلالة دون ما قبله لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذلك الأزواج نادرة. وقد يقع الضرر في الوصية إذا لم تقيد على أنحاء: أن يوصي المورث بأكثر من الثلث، أو أن يقر بكامل ماله أو ببعضه لأجنبيين أو أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له[12].

- إن من بدائع القرآن الحكيم كلمة الكلالة، يقول الحق سبحانه: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين، وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) سورة النساء، الآية 12. ويقول جل جلاله: (يستفتونك، قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) سورة النساء الآية 176. يقول رشيد رضا موضحا مسوغ التراخي بين الآيتين: "إن الله تعالى أنزل آيتين في الكلالة، الآية التي في أول سورة النساء والآية التي في آخرها، فبين في هذه الآية ما يرثه الإخوة لأم من الكلالة فقط للحاجة إلى ذلك وعدم الحاجة عند نزول الآية إلى ما يأخذه أخوة العصب، وكأنه وقع من بعد ذلك إرث كلالة في إخوة عصب. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية الأخرى التي في آخر السورة"[13]. وفي الآيتين الكريمتين نكتة بديعة التفت إليها العلامة البقاعي رحمه الله فقال: "والختام من مظان الاهتمام وهذا يدل على أن تأخير الإخوة لأبوين أو لأب والختم بهم لأنهم أكثر أهمية من الإخوة لأم"[14].

كما أن هناك سرا بديعا في اللفظ القرآني (يستفتونك) بدل (يسألونك)، لعله يكمن في أحكام شرعية يصعب على الناس فهمها وتكثر الأسئلة عنها، "فقد جاء هذا اللفظ في موضعين فقط لا ثالث لهما في القرآن الكريم من سورة النساء في قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) النساء، الآية 127، وفي قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) النساء، الآية 176، خلافا للفظ (يسألونك) الذي ورد في القرآن الكريم في خمسة عشرة موضعا"[15]. ولعل ما يميز الفتوى عن المسألة من حيث الأحكام الشرعية أن الأولى سؤال عن حادثة أما المسألة فهي عامة[16].

- إن صفة العلم جاءت في أواخر جميع آيات المواريث (إن الله كان عليما حكيما)، (والله عليم حكيم)، (والله بكل شيء عليم)، لأن الله سبحانه وتعالى هو العالم بمصلحة العبد في المواريث. وقد اقترن العلم بالحلم في أحد آيات المواريث، "وهذا تحريض على أخذ وصية الله وأحكامه بقوة وتنبيه إلى أنه تعالى فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة"[17].

- ومن أسمى مراتب البيان في آيات المواريث وجه التغاير بين لفظ وعد ووعيد في قوله تعالى: (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) النساء، الآية 13، وقوله تعالى: (يدخله نار خالدا فيها) النساء، الآية 14، فقد جمع ضمير الخالدين في الجنة لأن كل من دخل الجنة كان خالدا فيها أبدا، أو لتفاوت درجات الخالدين، أما أهل النار فبينهم الخالدون وغير الخالدين من عصاة المؤمنين، فساغ لجمع هناك ولم يسغ هنا، لأن الخالدين في النار فرقة واحدة، أما الخالدون في الجنات فهم طبقات حسب تفاوت درجاتهم[18].

خاتمة:

إن البحث في الإعجاز التشريعي والبياني لآيات المواريث يزيد من إيمان المسلم ويقويه ويثبته، ويعتبر ردا على دعاة تغيير أحكام الإرث في القرآن الكريم، إنه المعجزة الخالدة التي لا تبليها القرون ولا السنون، قال سبحانه وتعالى (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) سورة يونس، الآية 37 و38، وقال جل علاه: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) سورة البقرة، الآية 23 و24.

المراجع:

[1]- المعجزة والإعجاز في القرآن، سعد الدين صالح، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، سنة 1993 م، ص 219 – 220.

[2]- الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2،ص6، بتصرف.

[3]- ينظر الإعجاز التشريعي في المواريث، سلسلة الدراسات الشرعية، مازن اسماعيل هنية، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، يونيو 2005، الجامعة الإسلامية، غزة، ص504.

[4]- تفسير ابن كثير، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، بيروت، ط.1، 1419، ج 1، ص607.

[5]–رواه ابن ماجة، كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل، حديث رقم 2840، ص 399.

[6]–رواه مسلم، كتاب الوصية باب الوصية بالثلث، ج5،ص 71.

[7]- للتفصيل في الكثير من جوانب الإعجاز البياني ينظر : الإعجاز البياني التشريعي في آيات المواريث، سلسلة العلوم الاجتماعية ، شحادة العمري، المجلد العاشر ، العدد الرابع، جامعة اليرموك 1994م، ص 275-284.

[8] – إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 8، سنة 2005 م،ص 109.

[9]- شرح السرجية، الجرجاني، مطبعة بابي الحلبي، 1944، ص3.

[10]- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ج3، ص 348.

[11]- نفسه، ج4، ص51

-التفسير الكبير ، الفخر الرازي، دار الفكر، ط.1، 1981، ج3، ص 542 بتصرف.[12]

[13]- تفسير المنار، رشيد رضا ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973، ج2، ص 142 .

[14]- نظم الدرر في تناسق الآيات والسور، إبراهيم ابن عمر البقاعي، دار الكتب العلمية، لبنان ، بيروت، ط.1، 1995، ج2، ص 233.

[15]- أحكام القرآن ، ابن العربي،دار المعرفة، بيروت، ط.1، ج 2، ص 115، بتصرف.

[16]- للتفصيل ينظر: http:www.elqubessi.mohdy.com,qubessi.aspx?p_name_english

[17]- تفسير المنار، محمد رشيد رضا، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م،ج4، ص420.

[18]- إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين درويش، دار الإرشاد، سوريا، 1994، ط.4، ج2، ص 178-179.

علال الزهواني