ضاقت شوارع وسط بيروت ومدن أخرى من الشمال إلى الجنوب، الأحد، بمئات الآلاف من الرجال والنساء والشباب الناقمين على الطبقة السياسية، آخذين عليها فسادها وسوء إدارتها لأزمة اقتصادية دفعت اللبنانيين إلى تخطي انقساماتهم الطائفية والحزبية، والتظاهر مجتمعين في تحرك نادر، مطالبين بتحصيل حقوقهم.

وسيعقد مجلس الوزراء جلسة قبل ظهر الاثنين، برئاسة الرئيس ميشال عون، في القصر الجمهوري، لإقرار "خطة إنقاذية" اقترحها رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي منح مكونات الحكومة مهلة تنتهي مساء الاثنين لتحديد موقفها من إصلاحات يقترحها.

وامتلأت ساحات وشوارع وسط بيروت مساء ببحر من المتظاهرين من مختلف الأعمار، قدموا من مناطق عدة ورددوا هتافات بصوت واحد "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"كلهن يعني كلهن"، في إشارة إلى مطالبتهم برحيل كل الطبقة السياسية.

واتخذت التحركات منحى تصاعدياً منذ الخميس مع ازدياد أعداد المتظاهرين اتباعاً، وخروجهم من مختلف المناطق إلى الشوارع، في تحرك شلّ البلد وأغلق مصارفه ومدارسه ومؤسساته كافة.

وتعد تجمعات الأحد الأكبر من حيث الحشود منذ بدء التحرك كونه يوم عطلة. وتجمع المتظاهرون منذ ساعات الصباح وسط بيروت، ونزل آخرون إلى الشارع في صور والنبطية وصيدا جنوباً، وطرابلس وعكار شمالاً، وصولاً إلى بعلبك شرقاً، بشكل فاق كل التوقعات. وأنشدوا مراراَ النشيد الوطني اللبناني والأغاني الوطنية.

وقال مصطفى لوكالة "فرانس برس": "أتظاهر اليوم، وتظاهرت أمس وأول أمس، وسأواصل التظاهر لأنني أريد مستقبلاً في هذا البلد، وأن أعيش بكرامة".

ولم تخل التظاهرات من مشاهد طريفة، على غرار جلوس مجموعة من الشبان في حوض سباحة في بيروت، واحتفال عريسين في منطقة الجية جنوب بيروت بزفافهما وسط المتظاهرين، الذين حملوهما على الأكف على وقع الأهازيج والأناشيد. وتكرر المشهد ذاته بمنطقة زوق مصبح شمال بيروت.

وعقد متظاهرون حلقات رقص ودبكة، وارتفع صوت الأغاني المسجلة والأناشيد الوطنية في عدد من أماكن التجمع. وفي بعض زوايا التجمع، حمل آخرون معهم النراجيل وورق اللعب.

وابتكر المتظاهرون شعارات لكل زعيم سياسي، تتضمن غالبيتها كلمات بذيئة، حتى أن البعض حوّلها إلى مقطوعات موسيقية تم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تستثن الهتافات أي زعيم سياسي.

ولم يشهد يوما السبت والأحد مواجهات بين القوى الأمنية والمتظاهرين، كما لم تحدث أعمال شغب، كما في اليومين الأولين.

وانهمكت زلفا أبو قيس (27 عاماً) صباحاً في تعليق أسماء النواب والوزراء على أسلاك شائكة فصلت المتظاهرين عن القوى الأمنية التي تولت حماية "السراي" الحكومي.

وقالت لوكالة "فرانس برس": "جميعهم يسببون الأذى أكثر من الأسلاك الشائكة"، مضيفة "انتهى الأمر، 30 عاماً في الحكم، وجميعهم سارقون، أتظاهر من أجل نفسي ومن أجل الناس".

من أجل بناتي

على جدران وسط بيروت حيث المحلات التجارية الفاخرة والمصارف، كتب المتظاهرون شعاراتهم، بينها "لبنان للشعب" و"الوطن للأغنياء، الوطنية للفقراء".

وأعلنت جمعية المصارف أنها ستبقي أبوابها مغلقة الاثنين. كما أعلنت الجامعة اللبنانية ومدارس خاصة استمرار إقفال أبوابها.

وتأججت النقمة الشعبية ضد السلطات، مؤخراً، بعد ارتفاع سعر صرف الليرة في السوق السوداء مقابل الدولار للمرة الأولى منذ 22 عاماً، دون أن تقدّم السلطات تفسيراً واضحاً لذلك.

وفي مؤشر على حجم النقمة الشعبية، بدا لافتاً خروج تظاهرات غاضبة في مناطق محسوبة على أحزاب سياسية نافذة، أحرق ومزق فيها المتظاهرون صوراً لزعماء وقادة سياسيين، في مشهد غير مألوف، خصوصاً في معاقل حزب الله وحليفته حركة أمل.

وضاقت ساحة النور بطرابلس بالمتظاهرين الذين رفعوا علماً لبنانياً بطول مئات الأمتار، وفق الوكالة الوطنية للإعلام، ورددوا مع الفنان اللبناني مارسيل خليفة، الذي حضر بينهم، أغانيه الثورية ذائعة الصيت.

وقال نزيه سراج (50 عاماً)، الذي خسر عمله بعد قرار السلطات إزالة البسطات من الطرق، "لا أملك مالًا كي أستأجر محلًا، بسبب الغلاء الفاحش والضرائب غير العادلة".

وأضاف الوالد لأربع بنات يدرسن في الجامعة "نزلت إلى الشارع من أجل مستقبل بناتي (...) لقد حان وقت التغيير، ولا رجوع عن الشارع بعد اليوم".

وبمدينة صور (جنوب)، حيث تعرض متظاهرون قبل يومين للضرب على أيدي مؤيدين لحركة أمل، خرج الناس مجدداً إلى الشارع هاتفين ضد السرقة، وداعين إلى إسقاط الحكومة. وفي البحر قبالتهم، تظاهر صيادو المدينة في مراكبهم وزوارقهم، رافعين العلم اللبناني وسط الأغاني الوطنية.

كما تظاهر لبنانيون في مدة عدة بالخارج، بينها واشنطن ولوس أنجلوس وباريس، تضامناً مع مواطنيهم.

استقالة الجميع

وعلى وقع غضب الشارع، تبادلت القوى السياسية الاتهامات، محملة بعضها البعض مسؤولية ما آلت إليه الأمور. وأكد سياسيون أنهم يشعرون بـ"وجع" الناس، الأمر الذي أثار سخرية المتظاهرين.

وقال مصدر في رئاسة الحكومة اللبنانية لوكالة "فرانس برس"، متحفظاً عن ذكر اسمه، إن "الحريري اقترح ورقة على القوى السياسية للقبول بها كاملة أو رفضها (..) وتلقى اليوم موافقة عليها، تحديداً من التيار الوطني الحر وحزب الله"، اللذين يملكان أكثرية وزارية، على أن "يذهب غداً إلى مجلس الوزراء لإقرارها".

وأضاف المصدر إن هدف "الورقة المقترحة ليس إخراج الناس من الشارع، لكنها عبارة عن خطة إنقاذية تتضمن رؤية الرئيس الحريري لحلّ الأزمة الاقتصادية، إلا أن ما حدث في الشارع سرّع إقرارها".

وتقترح الخطة سلسلة إجراءات، بينها "الالتزام بعدم فرض ضرائب على الناس وخصخصة بعض القطاعات". إلا أن توجّه الحكومة هذا لم يرض المتظاهرين في بيروت.

وردت رنا مدور (20 عاماً) على هذه التطمينات بالقول: "يكذبون علينا منذ أكثر من 20 عاماً. لقد سئمنا منهم ونريد رحيل كل السياسيين".

وسجل الاقتصاد اللبناني عام 2018 نمواً بالكاد بلغ 0.2 بالمائة، وفشلت الحكومات المتعاقبة في إجراء إصلاحات بنيوية في هذا البلد الصغير الذي يعاني من الديون والفساد.

ويعاني لبنان من نقص في تأمين الخدمات الرئيسية، وترهل بنيته التحتية. ويُقدّر الدين العام اليوم بأكثر من 86 مليار دولار، أي أكثر من 150 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.