ما زالت الجزائر تتلمس طريقها للخروج من أزمة الحراك الشعبي، الذي اندلع بسبب إصرار من وقفوا خلف بوتفليقة على عهدة خامسة له؛ على الرغم من تقديم النظام القائم للعديد من التنازلات، التي كان يقصد بها التماهي مع مطالب الجماهير الغاضبة واحتواء فورانها عوض مواجهتها.

لم تفلح كل تلك المبادرات، إلى حد الآن، في إقناع المتظاهرين بمغادرة الشارع؛ بما في ذلك أيضا المناورة الأخيرة بإجراء محاكمة خاطفة لبعض رموز النظام تصدرهم السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس المطاح به ومستشاره والحاكم الفعلي من وراء الستار للجزائر منذ سنة 2013، وثلة من رجالات النظام السابقين إما حضوريا أو غيابيا.

هذه المحاكمات، وعلى الرغم من رمزيتها وتاريخيتها باعتبارها سابقة لم تشهدها الجزائر من قبل، لم تحظ بالمتابعة الشعبية المأمولة ولم يتحصل منها للنظام ذاك الوقع الإيجابي ولا تلك الفائدة المرجوة التي كانت تترقبها السلطة وتراهن عليها للخروج من عنق الزجاجة، خصوصا إذا انتبهنا إلى أنه يمكن اعتبار محاكمة السعيد بوتفليقة بمثابة محاكمة لرئيس الجمهورية وقد كان كذلك.

لقد واظبت المظاهرات على الالتئام في موعدها كل جمعة، كما لا تزال الانتخابات الرئاسية التي يوصي بها القايد صالح محط خلاف، ولا يعرف هل سيتم تمضيتها بالفعل أم أنها ستجهض للمرة الثانية لإصرار الشعب على التغيير الجذري.

الجزائريون نظروا إلى هذه المحاكمة كما لو كانت مجرد تغيير جلد للنظام ومحض تصفية حسابات بين الأجنحة التي تحكم الجزائر، وأنها ليست إلا صراعا يجري داخل النظام هدفه إعادة توزيع الأوراق، ومن ثمة تركيز السلطة الفعلية بيد الحاكمين الجدد دون لبس أو منازعة من بعض الحرس القديم، أي انبعاث لنفس النظام في إيهاب جديد .

إنه أمر واضح جدا للعيان؛ فالذي حاكم بوتفليقة ومن معه هو فعلا النظام القائم الذي لم يتغير بعد. وقد كانوا جزءا منه، قبل أن يلفظهم... النظام الذي عندما ينضب رصيده من المصداقية يلجأ إلى مثل هذه المحاكمات للتخلص من بعض أثقاله. زد على أن إجراءها بهذه السرعة الخاطفة، على الرغم من ثقل التهم الموجهة إلى المتهمين يدل على أن المقصود كان هو إحداث رجة قوية وتكوين قناعة بأن ليس كل النظام سواء وأن بعض النظام الصالح يمكن أن يتخلص من بعض النظام الطالح وأنه بصدد تنفيذ إرادة الشعب. هو النظام الذي تصرف رجاله كأجنة بعض فصائل القرش الذين يأكل بعضهم بعضا داخل الرحم ليكتب البقاء لقرش واحد منهم طبعا.

في الجزائر، الآن، حراك شهيته مفتوحة لتحقيق مكتسبات يرى أنها لا تحتمل التأجيل ويعتبر أن هذه فرصته الأخيرة لكي يعود إلى الشعب اعتباره في بناء المستقبل الذي يريد. ونظام منقسم على نفسه يشهد بعض منه على أهله قد أخضع نفسه لحمية تمنحه هامشا للحركة من خلال استئصال الجزء الذي يعتقد هو أنه كان الأكثر مراضة أو الأكثر ضعفا ليشكل قربانا لكل ما قد مضى. وهناك داخل الحراك وفي صفوف المجتمع ما يمكن أن نصطلح عليه بتيار المواطنين المستقرين الذين يريدون تغييرا لا يضع استقرارهم وأمنهم الحالي موضع المجازفة ولا يتيه بهم في صحراء الفوضى التي عانت منها أغلب البلدان التي سبقت للربيع العربي. هذا التيار هو الذي يراهن القايد صالح على اتساعه وامتداده إلى أطياف أخرى من خلال استثمار هذه المحاكمات. وهو التيار الذي يدفع الآن بالبعض إلى إعلان ترشيحهم للرئاسيات المقبلة في دجنبر هذه السنة. هناك الآن تدافع كبير في الجزائر يساوقه عدم اهتمام واضح بمحاكمة السعيد بوتفليقة كتعبير عن امتناع الحراك عن تقديم شيك على بياض للقايد صالح. إنها معركة كسر عظام حقيقية تجري، على الرغم من كل شيء بشكل ناعم وعلى جبهات عديدة: الحكومة، الشارع، المحكمة، الانتخابات والثلاثة النفسية بالخصوص.. فمن سينتصر؟ القايد صالح أم الحراك أم أن هذا الوضع الملتبس سيشكل مقدمة لتدويل الملف الجزائري.. ذلك ما ليس في مصلحة الأطراف ولا في مصلحة بلد المليون شهيد.


 

خالد فتحي