1

ضبط يضبط فهو ضابط. ضابط الحالة المدنية، ضابط الشرطة، ضابط الإيقاع، وضابط الوثائق. لضبط الوثائق نكلف شخصاً مع معاونين له بهذه العملية، ونخصص له مكتباً عَبره تمرّ كل العمليات دخولاً وخروجاً. نحن في عصر الضبط، أعني التّحكم. فالضبط بمكاتبه أتى عبر القانون. ربما تقع مخالفات أثناء استلام الوثائق، لذلك أُسندت مهام استلامها لمكتب خاص لا يمكن تجاوزه.

هل يتعارض الضبط مع الحرية؟ مع التواصل السريع، ومع الكاميرات الرقمية التي نضعها الآن في كل مكان للضبط والحماية والتوثيق، في حالة الاعتداء بالسرقة وما يدخل ضمنها؟

قد تختلف التسمية قليلاً بين العربية والفرنسية، فكلمة Bureau d’ordre ليست مرادفاً للفظ "مكتب الضبط" ، بل تعني مكتب الترتيب والتنظيم. الضبط يحيل إلى لغة عسكرية زجرية كقولنا: ضُبط في حالة تلبّس، بينما كلمة Ordre في الفرنسية قد تعني التنظيم وتجنب الفوضى.

متى نشأت فكرة المرور عبر مكاتب الضبط؟ لقد تمت حتماً نتيجة لحاجة يقتضيها التنظيم الإداري الذي يدخل في صلب الحداثة والتحديث، فهل تعاملَ مجتمعنا المغربي إدارة ومستفيدين من هذا بشكل إيجابي؟

للمزيد من الضبط، يسعى المنظمون الإداريون بالمغرب إلى توثيق كل داخل وخارج في القطاعين العام والخاص، مع فارق جوهري هو ابتسامة عريضة ولو صفراء أحياناً في القطاع الخاص الباحث عن الربح المادي، وبين عبوس مقصود في القطاع العام قد يكون هدفه تأجيل العمل المؤدى عنه سلفاً إلى أجل قد يكون غير مسمى.

2

يتلقى الأطباء المتدربون في مستشفى جامعي كبير وعتيق يتمتع بصيت وطني وربما حتى خارج أرض الوطن، يرتبط اسمه بعالم كبير هو ابن سينا والمشهور بالمغربية انطلاقاً من الفرنسية باسم Avicenne. مستشفى جامعي ومركز استشفائي كبير، وفي قسم المستعجلات منه أراد ابن السنة الرابعة بكلية طب بجامعة أجنبية غربية أن يقوم بالتدريب في بلده، وقد ورث بعض الوطنية القديمة عن والده المؤمن بأهمية خدمة الوطن حتى لو كانت نتيجة التدريب أقل فائدة منها في دولة غربية منظمة ومتقدمة علينا بسنوات ضوئية.

لباس لائق، وتحفيز داخلي قوي، ورغبة أكيدة في المعرفة واكتشاف الآخر، أليست رغباتنا ما هي في النهاية سوى رغبة الآخر كما يقول جاك لاكان؟ قدّم أوراقه الرسمية المتعلقة بفترة التدريب للسيدة المسؤولة في مدخل المستشفى بعد مفاوضات قليلة نسبياً مع حارس الباب المتعود على الممانعة قبل قبول الدخول. رحبت به وطلبت منه الاتجاه أولاً لمكتب الضبط لتوثيق وقت الدخول قبل المغامرة للعمل ولو تدريباً في الميدان. تأمين وطوابع رسمية كبيرة من الجامعة التي يدرس بها. كل هذا ضروري، لكن أين المسؤول الذي سيؤشر على قبول الطلب؟ عليك الاتجاه إلى جهة أخرى قالت ممرضة مسؤولة عن أمور إدارية بالمستشفى، أي إلى المديرية، فهناك سيتم التوثيق الأول.

اتجه الطبيب المتدرب صوب المديرية، الجو حار جداً، وعليه قطع الطريق للجهة الأخرى للوصول للبناية المقابلة حيث ترقد المديرية. بعض الانتظار كالعادة أمام الشباك الذي يفصل بين الناس ومصالحهم. المزيد من الانتظار والكثير من التأويل والمقارنة بين حالتنا وحالة الآخر، وبداخلها السؤال الكبير المحير الذي طرحه عبد الله العروي في الستينيات: من نحن ومن الآخر؟ وأخيراً حضرت المسؤولة وهي شابة كثيرة الماكياج. قالت مع ابتسامة شبه مصطنعة: ما المطلوب؟ سلّم لها المتدربُ الأوراق، وبنظرة عابرة وضعتها أمامها وقالت له: ارجع غدا على الساعة 12. ولكن سيضيع منّي يوم كامل رد عليها. لابد من انتظار المسؤول عن التوقيعات، إنها الإجراءات، ردت ببرودة تامة.

في اليوم الموالي رجع ووجد الشابة الكثيرة الماكياج في المكتب الضيق، ودون أن ترد تحيته سلمته الورقة غير موقعة قائلة: خذها للجهة الأخرى في مدخل مكتب الضبط، فهناك سيوقعها لك الطبيب الرئيسي. وسيضيع يوم آخر في الانتظار، فعليك المزيد من الصبر قال في نفسه، واتجه للمكان المطلوب دون احتجاج، فهذا يدخل في التدريب على الصبر في الإدارات المغربية.

في الشباك استقبلته ممرضة أخرى محتجبة وقاسية النظرات، تسلمت الورقة قائلة: ارجع بعد يومين أو ثلاثة، فالسيد الطبيب الرئيسي مسافر نظراً لوفاة أحد أقاربه. المزيد من الصبر، وسيضيع وقت كثير. وبالفعل، بعد خمسة أيام حضر المسؤول عن التوقيع الذي أخذ الطلب المكتوب وكتب بخط الأطباء المعروف برداءته المقصودة دون أن يقرأ شيئا: avis favorable . كتبها دون أن ينبس بكلمة ودون توضيح، وضعها على المكتب. أخذت الممرضة العبوس الورقة الموقعة ووضعتها في ملف قائلة للطبيب المتدرب: غدا يمكن بدأ العمل مساءً. إنه الضبط، منتهى الضبط.

3

في قسم المستعجلات الليلي الذي اختاره الطبيب المتدرب عن قصد للتقرب أكثر من الواقع المغربي ستتعطل آلة الاستعجال عدة مرات. تباطؤ بعض الممرضين. اختلافات بين طبيبين حول حالة مستعجلة تحولت إلى حالة معطلة. اكتظاظ. بعض الصراخ. خصامات بين الحرّاس وبعض أقارب المرضى كلها أمور في حكم المعتاد عندنا وأشياء كثيرة أخرى تعاش ولا توصف. امرأة تتألم بشدة. رجلٌ سكران ينزف رأسه دماً وهو يردد: ولد الحرام غْدرني، دابا نخرج لمّو مْنين يْخيطوني.

صراخ وعويل فتاة جراء وفاة والدها الأربعيني بسبب حادثة سير مميتة. الممرضات يائسات، الطبيبان قلقان والوسائل قليلة. الأطباء المتدربون الآتون من أوكرانيا وروسيا والمغرب والسينغال ورومانيا وبلدان أخرى يراقبون ويكتشفون حالة مستقبل بلدهم الذي اختاروا التدريب به للاقتراب من العائلة.

قسم المستعجلات هو قسم الدّم السائل بامتياز، والمتدربون يتقاتلون من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بلدهم الأمين، أو فيما تبقى منه على الأرجح. مراراتٌ وأحياناً مفارقات صامتة يجريها هؤلاء المتدربون القادمون من بعيد، وهم ينتظرون توقيعاً من قبل الطبيب المشرف على تدريبهم لورقة تفصيلية يقدمونها لجامعاتهم تجيز لهم الانتقال بتفوق من سنة إلى أخرى.

حركة سريعة لاستقبال رجل ثلاثيني أنيق الملبس في غيبوبة تامة، يظهر أن إصابته بليغة في الرأس جراء حادثة سير، اختلف الطبيبان المغربي والأفريقي حول وجوب أو عدم وجوب إجراء عملية جراحية. الأطباء والطبيبات المتدربون والمتدربات في حيرة من أمرهم. وفجأة انطفأت الحياة، وكادت إحدى المتدربات القادمة من القنيطرة أن تصاب بإغماء. مات الجريح.

4

منظر يتكرر بدون توقف، وما زال الطبيب المتدرب لم يحصل بعد على توقيع من الطبيب الرئيسي لضبط تام من مكتب الضبط يبين تفاصيل تدريبه. هكذا مضتْ ثلاثة أسابيع من التدريب في مختلف التخصصات من مستشفى جامعي كبير. وبعد شهر سيعود الطبيب المتدرب مضطراً لمكتب الضبط. لا بد من توقيع يبرر ما قام به ليقدمه للجهات المسؤولة في جامعته الغربية.

وبعد حصوله على الوثائق التدريبية موقعة قال لي وهو يودعني: سأعود السنة القادمة للتدريب في مستشفيات أخرى ببلدي. لا بد أن يتغير الوضع في المغرب مهما كانت الخسارات. فهل سيعود فعلاً؟ وهل سيتغير الوضع؟

 

أحمد العمراوي