تتميما لمقالي السابق المعنون "اليوسفي والنموذج التنموي الجديد"، سأخصص هذا المقال (الجزء الثاني) للوقوف من جهة على أهمية المجهودات المبذولة لتأهيل البلاد للانفتاح السياسي والاقتصادي، وما أحدثته في نهاية التسعينات من ديناميكية هامة، والتراجعات المقلقة التي عرفتها المملكة بعد المصادقة الشعبية على الدستور الجديد من جهة أخرى.

لا يمكن لأحد أن ينكر أن القرار الملكي الذي كان وراء دخول البلاد إلى مرحلة الانتقال التوافقي، قد توج بشكل واضح بحدوث تطورات على مستوى بنية الحكم المؤسساتي، بنية ترتب عنها تحسين ملموس في مستوى جاذبية البلاد إقليميا ودوليا. بالفعل، لقد تمكن المغرب من تقوية ورفع قدراته لتمويل اقتصاده من خلال تدفق الاستثمارات الأجنبية، ومداخيل عمليات الخوصصة، والتي كان أهمها خوصصة مؤسسة اتصالات المغرب، وتطوير الشراكة ما بين القطاعين الخاص والعام. إجمالا، لقد نجحت حكومة السيد عبر الرحمان اليوسفي من وضع قطار تنمية البلاد على سكة صلبة ومؤمنة، اعتبرها المتتبعون وطنيا ودوليا مصدر ثقة، وأمان، واستقرار، وأمل في مستقبل واعد. لقد شيدت هذه الحكومة فضاء سياسيا واقتصاديا يسر عمل حكومتي السيدين إدريس جطو وعباس الفاسي، ليتم إعلان إنعاش الاقتصاد المغربي وابتعاده عن تهديدات السكتة القلبية.

إلا أن ما تم تحقيقه في مجال تقوية مرونة البنيات الاقتصادية في تعاملها الناجح مع التطورات والأزمات الدولية، سيصاب، ما بعد سنة 2011، بالتراجع، ليفسح المجال لتأثير عوامل مضادة وضارة بالتراكمات الإيجابية اقتصاديا وسياسيا. لقد برزت في السنوات الأولى من عمر حكومة السيد بن كيران مؤشرات وعوامل أبانت عن بداية تدهور توازن الاقتصاد الوطني (بداية تفاقم العجز المالي والحساب الجاري ومستوى المديونية). لقد أكدت جل المؤشرات تقريبا تراجع مردودية السياسات العمومية، والتي تحولت مع مرور الوقت، بفعل انبثاق العوامل المساهمة في تفاقم صلابة البنيات الهيكلية للاقتصاد الوطني، إلى عائق لمسلسل تحسين الإنتاجية والقدرة التنافسية للتراب الوطني. فبالرغم من الإجراءات والإصلاحات "التعسفية" العسيرة، والتي كان أبرزها "إصلاح" صندوقي المقاصة والتقاعد، ازدادت حدة الاختلال في التفاعلات ما بين الخيارات الماكرواقتصادية والميكرواقتصادية التي تم اعتمادها في تدبير التنمية ببلادنا. لقد أصيبت البنيات الإنتاجية بنواقص مفرملة للسرعة التي ميزت تراكم المكتسبات التي حققها المسار التنموي ما قبل سنة 2011، بحيث أصبح بارزا من خلال المؤشرات الرسمية ما يؤكد الضرر الذي أصاب نمط استعمال واستغلال عوامل الإنتاج. فنتيجة لارتفاع المديونية، وما لحق تدبير النظام الضريبي ونسب الصرف والإعانات من نواقص، اقتصرت خيارات النموذج التنموي على تدبير الإكراهات على المدى القصير، في غياب شبه تام، لأي محاولة لبلورة رؤية اقتصادية ناجعة على المدى البعيد، ليرتكن العمل الحكومي في مجال ضيق سيطر عليه هاجس البحث عن كل ما من شأنه أن يحافظ على التوازنات الماكرواقتصادية بأي ثمن تجنبا لسقوط الحكومة بقرار ملكي سيادي. لم تكن لمكونات حكومة بن كيران الجرأة اللازمة والقدرة الفكرية والعلمية للتفكير في استرتيجية سياسية واقتصادية وطنية تضمن تقوية النجاعة للفعل المؤسساتي لتعبيد مسارات جديدة لخلق التراكم الاقتصادي على المدى البعيد.

خلاصة

إن المسار السياسي لما بعد المصادقة على الدستور الجديد، لم يكن في مستوى جعل المكتسبات السياسية التي تم توسيعها آلية قوية لتحقيق مستويات تصاعدية في مجال التنمية الترابية والوطنية. على عكس المتوقع، عرف النموذج التنموي المغربي تناقضات واختلالات واضحة ميزت بلورة وتفعيل الخيارات المناسبة في السياسات والبرامج الاقتصادية العمومية. لقد ساد التفكك ما بين السياسات النقدية وتلك المرتبطة بالميزانية، وفي علاقة قرار الانفتاح الاقتصادي بنسب منظومة صرف العملات وتدبير الإعانات، والتعامل مع خدمة الدين الخارجي والداخلي. على المستوى الاجتماعي عرفت السنوات الثمانية الأخيرة توترات متكررة، وحراك مجتمعي قوي، وتنديدات بتدهور المنظومتين التعليمية والصحية، لتبتعد بشكل ملموس السياسات العمومية عن أهداف التنمية المستدامة.

فأمام هذا المنحى التراجعي، وهذا الوضع المتأزم، تدخل عاهل البلاد، في إطار الحرص على استقرار واستمرار الدولة، ودعا الفاعلين السياسيين إلى جعل الدخول السياسي لموسم 2019/2020 محطة لخلق التحولات المطلوبة في منطق الحكامة السياسية والتدبيرية لإعطاء الانطلاقة لبلورة وتفعيل نموذج تنموي جديد، يؤسس لتعاقد اجتماعي واعد.

 

الحسين بوخرطة