بمناسبة اليوم العالمي لكبار السن، أكتب معبراً عن شوقي لواقع جديد في وطني الحبيب.

سبعة وستون عاماً مضت على ميلادي، هي ذات المدة التي انقضت على حركة يوليو عام 1952، التي قامت أساساً ضد ملك كانت البلاد إبان حكمه تنعم بديموقراطية حقيقية، رغم ما قيل عن تجاوزات حُصرت جلها وكلها في فساد الملك وشربه الخمر وحبه النساء، وهي أشياء إنسانية، لكن حين يُحارب الظلام النور، يبرز الصفات الشخصية وما يعتريها من سلبيات، ويُخفي الصفات الحسنة والإيجابيات.

وعلى فرض أن الملك فاروق كان فاسداً، محباً للنساء، شارباً للخمر، مؤتمراً بأوامر السفارة البريطانية كما قيل عنه - وكأن الزعماء من بعده كانوا أطهاراً، أحرار الفكر، لم يأتمروا، وما زالوا، بأوامر الغرب وأميركا - فما يعنينا هنا هو كيف انعكست سماته الإنسانية الشخصية على حالة مصر المملكة التي كانت منارة الشرق، يفضلها الأوروبيون على بلدانهم، وما هو موقعها حينئذٍ بين بلدان العالم في السياسة والعلوم والفنون والصحافة والصناعة والتجارة، تحت حكم الملك الفاسد؟

ليس من طبعي أن أترك قلبي ومشاعري مشاعاً لحب وعشق هذا الزعيم أو ذاك، فتلك عواطف خادعة إن كانت تصلح في فترة من الزمان، فلا مجال لها في كل الأزمان، فنحن نعيش في عالم تسيره قوانين وأنظمة لا أحد فيه معصوما عن الحساب، والمسؤولون تدل عليهم وتقيمهم نتائج أعمالهم، لا جمال سحنهم، أو حلاوة لسانهم. ولننظر إلى أي زعيم من الزعماء الأطهار الذين ثاروا على الملك الفاسد وظلوا يتناوبوننا كالميراث، ونسأل أنفسنا:

  • ما هو موقع بلادنا على ساحة الاقتصاد العالمي؟ وما الذي نتفوق في صناعته وتتهافت عليه دول العالم استيراداً؟
  • ما هو وضع التعليم والبحث العلمي وما ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم، وماذا قدمنا للعالم والبشرية؟
  • هل المواطن يسكن سكناً لائقاً بالإنسان؟ وهل تتوفر له الخدمات الضرورية كغيره من بني البشر؟
  • هل يتوفر له عمل يوافق مؤهلاته وخبراته بالمساواة مع غيره أم يتوسله بالرشوة أو بالواسطة؟
  • هل يتلقى أطفالنا وأحفادنا تعليماً إلزامياً كريماً أم عليهم دفع ثمنه ولا يقدرون؟ وهل تتوفر للأسرة الخدمات الصحية الضرورية أم أن الطبقية تنخر في عظام الوطن بحيث يُحدد سرعة العلاج ونوعيته ومكانه الموقع الطبقي الذي يشغله المريض؟ فهل الجميع أمام المرض سواء؟
  • هل المواطن يحصل على الخدمات الحكومية بطريقة آدمية تليق به كإنسان، أم أنه مضطر لدفع الرشوة أو الاحتجاز لساعات في حر الصيف وبرد الشتاء في أماكن لا تليق بالحيوانات؟
  • هل المواطن في بلد الزعماء الأطهار حرُ في إبداء رأيه؟ وحرُ في اختيار من يحكمه؟ وحرُ في اختيار من يمثله في البرلمانات؟ وهل هي فعلاً برلمانات حقيقية تخدم الشعب أم خادمة للحكام؟
  • وأخيراً وليس بآخر: هل يستطيع أحد في وطن الزعماء الأطهار محاسبة أي مسؤول عن سوء إدارته؟

تلك أشياء بديهية في عالم اليوم، وليست بدعاً أو خرافات رجل عجوز، تلك حقوق لكل البشر، وليست هبة أو منحة من الحكام، تحصل عليها الشعوب بعزة نفس، فلا يمن أحد عليهم بها.

دعكم من توجيه الاتهامات بالعمالة والخيانة لكل من يثير تلك الأسئلة، فذلك خروجاً عن الموضوع. ودعكم من مقولة المؤامرات الخارجية فقد عفا عليها الزمان، وجميع الدول تعرضت للمؤامرات، وكان خيارها مواجهة عدوها الخارجي ببناء قوتها الذاتية، بتطوير تعليمها وصناعتها واقتصادها وإنسانها، وليس بخلق عداوة مع الشعب وإهمال تقدم الدولة، وإذلال المواطن وإضعاف مركزه بين باقي الشعوب، واستئثار فئة بثروات الوطن، بذريعة محاربة المؤامرات، فقد سمعت تلك النغمة النشاز طوال سبعة وستين عاماً، كما سمعت نغمة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والنتيجة كما يعرفها الجميع، تأخر في جميع المجالات، وما زالت أسطوانة المؤامرات دائرة لا تتوقف، وكأن الدنيا لا يشغلها إلا حياكة المؤامرات ضد مصر. المقولة أصبحت ممجوجة ولم تعد تنطلي على البسطاء الذين تفوق عقولهم وثقافتهم الكثيرين من عتاة الإعلام الكاذب.

ودعكم من مقولة أن الدولة ستنهار دون الزعيم هذا أو ذاك، فهناك أسباب قدرية لاختفائهم لا يقدر على تجنبها أحد مهما كانت قوته وجبروته، فقد مات جمال عبدالناصر في عز قوته، واغتيل السادات في عنفوان مجد انتصار أكتوبر، وخُلع مبارك الموصوف بصاحب الضربة الأولى بعد ثلاثين عاماً من القهر والظلم، وما زالت مصر باقية، وستبقى مهما قيل من هُراء، فضياء الأمم لا ينطفئ، وقدرة شعوبها لا تنكفئ، إذا غاب من غاب.

إن تجارب الأمم التي سبقتنا تشي بأن التغيير الذي يُلبي طموحات الشعوب لم يأت بإرادة الحكام، ودوماً يجيء بأحداث جسام، ومع هذا فمن يحكمون اليوم، لديهم الفرصة الذهبية لتجنيب البلاد هذا الطريق المحتوم، فماذا تخسرون لو قررتم اليوم استبدال التهديد والوعيد بالحكم الرشيد، صدقوني ستكون حياتكم أفضل، ستحجزون مكانا لكم في التاريخ بين العظماء، ويُقدركم الشعب ويظهر لكم حبه الصادق بدلاً من النفاق والرياء، ستتمكنون من النوم بهناء، وتمشون في الشارع بين الناس يحيطكم التقدير والاحترام والأمان، ويعيش بعزة بدلاً من القهر والاستجداء.

افعلوها بأيديكم، فشعب مصر يستحق كل الخير، وسيحصل على ما يستحق، بكم أو دونكم.

عادل الجوهري