اعتادت الأحزاب الديمقراطية طرح المسألة الدستورية كأولوية وكمدخل لأي إصلاح سياسي في الوطن. وبالعودة إلى تاريخ المطالبة بالإصلاح في المغرب، تطفو على السطح أول المذكرات التي رفعها عدد من رجالات الإصلاح وعلماء مغاربة وحتى من غير المغاربة للحكام العلويين، مطالبين إياهم بإدخال إصلاحات عميقة بغية الوصول إلى هدفين رئيسيين؛ إنقاذ المغرب من الأطماع الأجنبية المحدقة به، وأيضا بناء نظام سياسي عصري يعتمد تقييد سلطات الملك وتوسيع سلطات الهيئات المنتخبة: مذكرة عبد الله بن سعيد سنة 1901، مذكرة عبد الكريم مراد الطرابلسي (السوري الجنسية) سنة 1906، مذكرة علي زنيبر سنة 1906، مذكرة الثعالبي...). لكن يبقى مشروع دستور 1908 أحد أبرز الوثائق التاريخية التي حاولت تأطير النظام السياسي بوثيقة دستورية مكتوبة. هذا النقاش الذي سيتوارى أثناء الحماية تاركا مكانه لأولوية الحصول على الاستقلال وطرد المستعمر، باستثناء محمد بلحسن الوزاني الذي دافع عن أولوية المسألة الديمقراطية والدستورية على مسألة الاستقلال، أو على الأقل ضرورة اقترانهما معا، وهذا ما يعكسه شعار "الاستقلال رائدنا وسبيلنا إلى الدستور". وهو الأمر نفسه في وثيقة دستور جمهورية الريف التي جاءت بعد انتصارات أنوال، حيث قام هذا المشروع على أساس مبدإ سيادة الشعب.

هذا النقاش هو الذي سيتصدر الساحة السياسية المغربية مباشرة بعد الحصول على الاستقلال، حيث سيشكل موضوع الدستور مجالا للصراع والصدام بين أحزاب الحركة الوطنية من جهة وبين الحسن الثاني من جهة أخرى؛ هذا الصراع الذي سيأخذ عدة أبعاد ستصل إلى تأزيم الوضع عقب دستور 62 وبشن حملة الاعتقالات وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي حتى انفجار الأوضاع إثر انتفاضة 23 مارس 1965 وإعلان حالة الاستثناء من طرف الملك. وهو التدافع حول المسألة الدستورية إبان دساتير سنوات 1970، 1972 و1992، لينتهي عند أحزاب الحركة الوطنية بالتصويت الإيجابي على دستور1996 (باستثناء منظمة العمل الديموقراطي الشعبي) ودخول تجربة التناوب بدون ضمانات.

وبعد وفاة الحسن الثاني ووصول الملك محمد السادس إلى السلطة، سيستمر القصر في التغاضي عن هاته الأولوية كمدخل للإصلاح الشامل وسيعوضها بخلق مجموعة من اللجن والهيئات (الإنصاف والمصالحة، الجهوية الموسعة...).

ولاعتبار تبعية غالبية النخب السياسية للقصر، فإنها ستهتم بما يراه الأخير أولوية في أجندته السياسية، وهو ما يفسر امتناع معظم الأحزاب السياسية عن طرح الموضوع، باستثناء مذكرة يتيمة سيقدمها الحزب الاشتراكي الموحد للديوان الملكي سنة 2007، وهي المذكرة التي لم يعرها ذرة اهتمام.

وسيستمر النظام في تجاهل المسألة الدستورية، بموازاة استمرارية معظم الأحزاب على نفس النهج باستثناء مطالبات محتشمة من طرف أحزاب اليسار الديمقراطي. ليظل الوضع كما هو عليه إلى حدود بروز دينامية حركة 20 فبراير عقب الربيع الذي هم المنطقة العربية كلها، حيث تصدرت المسألة الدستورية والديمقراطية مطالب حركة 20 فبراير ودعمتها كذلك أحزاب اليسار الديمقراطي التي ستفترق بها السبل بين مشارك في لجنة المنوني ومقاطع لها، وبين مشارك في الانتخابات ومقاطع لها ولكل العملية في مراحلها المختلفة.

هذا التدافع السياسي الجميل، سيختفي في الآونة الأخيرة من طرف الكل فغابت الجرأة عند القيادات السياسية، بما فيها تلك المنتمية لليسار الديمقراطي التي عودتنا على المبادرة والإنصات لنبض الشارع واقتناص الفرص السياسية لتحقيق مكاسب لهذا الشعب ولهذا الوطن.

لقد غرقت تلك القيادات في صراعات ذاتية وحسابات سياسوية ضيقة وأوهام تزيد في عزلتها عن المواطنين، وابتعادها يوما عن يوم عن الصراع السياسي الحقيقي؛ فلا هي رفعت مذكرات لرئيس الدولة كإحدى الإجابات على خطبه المتعددة، ولا هي قادت معارك في الشارع لتغيير موازين القوى لفائدة التغيير والإصلاح ولا هي حققت تقدما انتخابيا يمكنها من ممارسة معارضة مؤسساتية وازنة. فمتى تعود هاته الأحزاب المناضلة إلى وعيها لتسترجع المبادرة في الساحة السياسية؟ أم أنه آن الأوان لقياداتها أن تتوارى إلى الخلف فاسحة الطريق لجيل آخر ينظر إليها أنها جزء من الأزمة.

 

منذر سهامي