في مثل هذا اليوم من سنة 2010 رحل المفك والباحث في مجال الدراسات الإسلامية محمد أركون, مخلفا ذخيرة من الدراسات والمؤلفات تمحورت في أغلبها حول تراث الإسلام الكلاسيكي من أصول وفقه وكلام وفلسفة وأخلاق .. وفي مجمل أعماله الفكرية النقدية تناول التراث في ضوء مكتسبات المعرفة المعاصرة ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية وذلك بغاية تأسيس مقاربة نقدية جديدة أطلق عليها اسم ” الإسلاميات المطبقة”. إن الاستراتجية المعرفية الأركونية لهذه المقاربة المنهجية هي كما يقول ” تفكيك العقل الإسلامي “, و تحريره من يقينياته التي يسجن فيها نفسه ,ويغلق بها أبواب الانفتاح والتمثل الإيجابي لمعطيات العصر العلمية والفكرية , فالإسلام, يؤكد أركون في أكثر من مؤلف ” ليس مغلقا” ولا يتعارض مع الحداثة ولا مع العلمنة , وعلى المسلمين أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم , وتجعلهم سجناء داخل ما سماه ب “السياج الدوغمائي المغلق ” الذي تستمد منه قوى المحافظة والسلطة مشروعيتها , يقول:
” إن نقد العقل الإسلامي يهدف إلى تفكيك كل هذا البناء الشامخ والمقدس الذي يحتمون به اليوم من أجل الحصول على المشروعية أو من أجل المحافظة عليها” ( أنظر كتابه : الاسلام , أوروبا , الغرب : رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ً 117)
لقد أنتج هذا ” البناء الشامخ والمقدس ” وما زال مختلف أشكال ” الجهل المقدس ” وتنظيماته وتياراته الرافضة للحداثة التي أسندت لنفسها مهمة حراستة بالتنكيل والتكفير ضد اجتها د فكري نقدي وحر يتغيا نحو التحديث والعلمنة والدمقرطة .
ان المجيء إلى الحداثة عند أركون رهين بنقد وتفكيك يقينيات العقل الإسلامي , وبقراءة جديدة وحديثة للنص الديني , القرآني, كما قام بذلك في كتابه ” قراءات في القرآن” , فالحداثة ليست في منظوره استنساخا لنموذج جاهز, ولا تماهيا مع الحداثة الغربية , فأركون أكد في أكثر من دراسة ومؤلف على ” أن الحداثة ليست حكرا على الغرب أو الشرق , وموقف الحداثة قد يوجد في أي عصر ولدى كل الشعوب… إنها ليست حكرا على أوروبا والغرب كما حاول أن يوهمنا الاستشراق”, وكما كتب ناصيف نصارفي نفس المعنى : ” الحداثة الأوروبية ليست النمط الوحيد الممكن لتحقيق الحداثة(..) فلاشيء يمنع من التفكير في الحداثة , وبالتالي في التراث وفي المستقبل انطلاقا من تصور تعددي ونسبي لحركة الحداثة في التاريخ العام للبشري ” ( ناصيف نصار , الاشارات والمسالك : من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية, ص 41 و 42) ”
انطلاقا من هذا التصور للحداثة درس أركون موقف الحداثة عند المسلمين في القرون الأربعة الهجرية الأولى مستخلصا أن ” الحداثة لها جذور تراثية ” وأنها لا تستقيم بدون ” تثوير الأصالة ” , وبدون كسر ذاك “السياج الدوغمائي” و ” تفكيك المقدس” من طريق قراءة جديدة ومنفتحة للنص القرآني في ضوء مناهج العلوم الحديثة وفي مقدمتها علم الأديان المقارن والانتربولوجيا واللسانيات وغيرها من العلوم الاجتماعية ..
في ذكرى رحيله التاسعة , كم هو ملح التفكير في أدوات وآليات عمل تيسر نشر وتدريس فكره التنويري واستئناف اجتهاداته في ضوء ما خلفه من أبحاث ومؤلفات تندرج ضمن استراتيجية معرفية ومنهجية واحدة ألمحت هنا بإيجاز لعناصرها.. وكم هي الحاجة أكبر إلى حامل ثقافي واجتماعي لفكره التنويري ..


 

جليل طليمات